غلاف النسخة الإلكترونية الثانية
رابط كتاب: المتناسقة في جوجل درايف
بسم الله الرحمن الرحيم
المتناسقة
طريقة أدبية جديدة
تمزج بين المقالة والقصيدة
شعر و نثر
ماجد بن عبد الله الطريّف
المقدمة
الحمد لله رب العالمين،الرحمن الرحيم ،مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين،
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المتناسقة طريقة أدبية جديدة ،تمزج بين المقالة والقصيدة.
فهي تجمع وتؤالف الشعر الوجداني مع النثر الفني،تجمع الشعر والنثر جناحي الإبداع الإنساني؛فإن الله خلق الإنسان وعلمه البيان ،فأبان الإنسان بالشعر وبالنثر عن مكنون فؤاده .وتراث الأدب الإنساني مملوء بروائع الشعر وروائع النثر وذلك في جميع البلدان وجميع العصور.
وللشعر مجالاته التي يحلق فيها ،وللنثر ميادينه التي يسترسل فيها.
وقد يسر الله لي الشعر والنثر فكتبت القصائد والمقالات سنين طويلة .
ثم طاب لي في هذه المواضيع أن أجمع بين الشعر والنثر متآلفين في نسيج واحد فكانت (المتناسقة) لتحوي النثر وحججه واستطراداته وأدلته ،وتحوي معه الشعر و تحليقاته وعواطفه ووجدانيته وإيقاعه الخلاب.
فكأن القلب يسير في أودية البيان مع النثر متأملا مسترسلا فإذا لاحت له بوارق الشعر رفرف وحلق.
ولهذا أكتب في أثناء المتآلفة (بارقة شعرية) ثم أكتب من شعري في موضوع المتآلفة مما يجيش في الوجدان ويجول في الخاطر ،وقد تكون البارقة الشعرية في البداية أو في الخاتمة، وقد يكون في المتآلفة الواحدة عدد من البوارق الشعرية بحسب ما لاح في سماء القلب وبرق في أفقه.
وهذه الطريقة الجديدة في الأدب (المتناسقة) طريقة شاملة تطلق النفس في الإبداع ؛فإن بعض المعاني في الموضوع لا يؤديها إلا النثر وحججه وتفصيله وأدلته، وأما المعاني الأخرى فتحتاج للشعر وعاطفته ووجدانيته المؤثرة وإيقاعه القوي.
ولهذا فإن المؤالفة بين الشعر والنثر في نسيج واحد يطلق النفس في الإبداع ، فتسرح في رحاب النثر وتحلق في أجواء الشعر ،وتستوفي كل موضوع بحسبه ، وتعرض كل معنى بما يناسبه.
إن الشعر والنثر هما جناحا البيان الإنساني ،فإذا هما اجتمعا في نسيج واحد صارا كالعينين للناظر يبصر فيهما في جميع الاتجاهات.وصارا للقلب كالجناحين للطائر يحلق بهما في آفاق البلاغة.
أسأل الله خالق الانسان معلمه البيان أن يبارك في هذه الطريقة الأدبية الجديدة (المتناسقة).
وأسأل الله أن يسخر ألسنتنا وأقلامنا في طاعته،وأن يجعل كلامنا في مرضاته،وأن يجعل مداد حروفنا حسنات مقربة إليه سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ربيع الأول 1434هـ
عنيزة
ماجد بن عبد الله الطريّف
البريد الالكتروني:
M55691@hotmail.com
رابط
مدونة العلم والأدب
http://alaelm.blogspot.com/
بسم الله الرحمن الرحيم
المتناسقة الأولى : تحميدات
*بارقة شعرية
ربي لك الحمد الذي لا ينتهي يا من تسبحه الخلائق كلها
الحمد لله حمداً لا ينفد،أفضل ما ينبغي أن يحمد.
الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه.
الحمد لله عدد خلقه، و رضا نفسه، وزنة عرشه ، ومداد كلماته
قال تعالى{وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}
*بارقة شعرية
حمداً لربي منزل القرآن حمداً له في السر والإعلانِ
حمداً له ملأ العوالم كلها حمداً له يزجى بكل لسانِ
كل المخلوقات تسبح بحمد ربها خالق كل شئ سبحانه وتعالى ، ولكننا لا نفقه تسبيح هذه المخلوقات ،بل نحن لا نعرف أعداد تلك المخلوقات في البر والبحر والجو قال تعالى:{وما يعلم جنود ربك إلا هو} بل كم نغفل عن آيات الله في أنفسنا قال تعالى:{وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ولا نعرف حقيقة أرواحنا قال تعالى{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}
فسبحان الذي إن أردنا أن نزيد في تسبيحه وحمده و الثناء عليه أوكلنا ذلك إليه كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"
المتآلفة الثانية: أبشر ! فقد قرب الصباح !!!
*بارقة شعرية
لقد آن لليل أن ينفرج
وقد أوشك الفجر أن ينبلج
قد تضيق أنفسنا بالظلام الجاثم على الأمة الإسلامية ، وقد تتألم أفئدتنا حين نرى النكبات تحل بالمسلمين في كل أنحاء الأرض ، فنحن في عصر حيثما كان الإسلام فهناك الآلام ، ولكننا لو تأملنا لرأينا الأمة قد غفت طويلاً حتى تجرأ عليها أعداؤها والإسلام في تلك الشعوب كالمارد النائم ولذا كان لابد من ضربات موجعة كي يصحو ذلك المارد الجبار في قلوب تلك الشعوب وها هو المارد يتململ الآن ويبدأ صحوته ، ولابد من بعض الآلام في طريقه فمن ترك أعداءه حتى حكموا السيف فيه فلابد أن يعاني الآلام وهو ينزع نصل السيف من جسمه ويبعد اعداءه ثم يحكم السيف فيهم ..
ولا عجب أن تسيل أنهار الدماء في الأمة الإسلامية ؛ فإن فجر النصر لا ينسج ثوبه الأحمر إلا من حمرة الدم .وقد أذنبت أمة الإسلام فيما سلف ذنوباً عظيمة لا يكفرها إلا الدم المهراق،كما قال تعالى عن بني إسرائيل: {وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم }
فجعل الله كفارة ذنب بني إسرائيل العظيم بعبادتهم للعجل ، أن يقتلوا أنفسهم ، فإذا عظم الذنب لم يكفر إلا بالدم ، وها هو القاتل يقتل ، والسارق تقطع يده وغيرهم الكثير تكفر ذنوبهم العظيمة بدمائهم المراقة ، وهكذا الأمة إذا عظمت ذنوبها ، لم يكفرها إلا الدم المنساب ! فلا ينبغي أن نكثر التألم لتلك النكبات فإنما ذلك ميلاد النصر ولا بد للولادة من آلام ودماء ، وينبغي أن نستحث أنفسنا وأن تكون تلك النكبات دافعنا وها هي البشائر تلوح في كل مكان فحيثما سمعت بآلام للمسلمين فذلك صوت صحوتهم.وانظر إلى قلوب الشعوب ترى قرب نصرهم ؛ فتلك القلوب التي كانت لا تبالي والعدو الكافر يحتل أرضها هى الآن تجيش لكل مسلم يؤذى في أقاصي الأرض ..
لقد ولى إلى غير رجعة زمن جيل يدوس فيه الأعداء على رقاب المسلمين فما من نكير ،وجاءت أجيال تتوثب للإسلام في كل مكان ، وستأتي أجيال تهب للنصر المظفر . وويل لأعداء الأمة من تتابع الأجيال ونهضة الشعوب حين تموج كالبحر الهائج لا يقف في طريقة شيء .
*بارقة شعرية :
جيل الهزيمة قد مضى
وأتى لنا بالصحوة الـ
فاهتف بأفلاك العلا
من بعد جيل الصحوة الـ
وطوته كف الدهر
ـغراء جيل الفجر
مستهزئاً بالكفر
ـغراء جيل النصر
المتناسقة الثالثة: سعادة الأرواح
*بارقة شعرية:
أظننت قرب الخلق يؤنس وحشة الأنس لو تدري بقرب الخالق
يقولون إن البشر طبيعتان : مادية ضاحكة ، وروحية كئيبة...
فهل لهذا التقسيم حقيقة ؟
إننا إذا تأملنا وجدنا بعض الأنفس مادية ضاحكة يغلب عليها اللهو والمرح والضحك ولكنه في الحقيقة ضحك الظاهر ولذة الجسد فترى من روحه مادية يلهث في الأرض ينشد اللذة الزائفة وما يدري مستقره،كما قال الله تعالى : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. وقال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } .
تلك هي المادية الضاحكة ولكن ما شأن الروحية الكئيبة ؟!
إن ذوي الطبيعة الروحية هم المفكرون ذوو العقول النابغة والأرواح السامية والهمم البعيدة هم قادة الدنيا .
وإن الله هيأ تلك الأرواح لأعاظم الأمور وجعل في أعماقها سرا روحيا فلا تزال تشعر بكآبة لا تدري منشأها،وتطلب في الآفاق أشياء تجهلها،وإنك لو نظرت في حياة الناس لوجدت أشقاهم أعمقهم فكراً إذا ضل عن السبيل، قال الله تعالى: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى }
ولكن حين يهدي الله تلك القلوب للإيمان يقذف فيها سعادة عميقة لا يشعر بمثلها أهل الأرض جميعا ، سعادة لو كانت في الأرض أقلت أهلها ولو كانت في السماء أظلت سحبها ...
تلك سعادة الإيمان الراسخ في الأفئدة ... فإن برد اليقين روضة من الجنة يلقيها الله في صدر عبده المؤمن ، وإن ظلمات الشك نار معجلة من الآخرة يصلى بها الضال المعرض
وكما قال أحد السلف :" إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الأخرة "
اللهم أهدنا للإيمان وطمئن أفئدتنا به ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين .
*بارقة شعرية:
يهتف الكون لمن أصغى له: كل ما في الأرض يسعى للفناء
فلسفات الأرض شكّ مهلكٌ تقذف الحائر في نار الشقاء
شعراء الأرض كم هاموا بها لم يروا في الكون آفاق السماء
لو سما الشاعر أضحى مؤمناً فسمو الشعر معراج الصفاء
المتناسقة الرابعة: : مكانة الأدب
الأدب صقل للسان وتهذيب للوجدان،ومكانة الأدباء في الأمم مكانة عظمى لا تخفى.
وقد كانت قبائل العرب إذا ظهر فيها الشاعر أقامت الاحتفالات وجاءتها وفود القبائل الأخرى لتهنئها بهذا الحدث الكبير .
وهكذا عند عامة الأمم يقول بعض الأدباء : إن الحضارة اليونانية رغم ضخامتها لم تترك من آثارها ما هو أعظم من ملحمة الإلياذة وملحمة الأوديسا وهما ملحمتان شعريتان لشاعر اليونان الكبير هوميروس .
هكذا كانت مكانة الأدب في الأمم السابقة.
وفي صدر الإسلام تسامى الأدب لتأثره بالوحي الإلهي القرآن العظيم ،وتأثره بالبلاغة النبوية التي حوت جوامع الكلم .وكان الأدباء شعراء وخطباء صوتا للحق والدفاع عن الإسلام فكان منهم ثابت بن قيس رضي الله عنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه حتى ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان محرضا على هجاء الكفار:اهجهم وروح القدس معك . فما أعظم أن يكون ملك الوحي جبريل عليه السلام في تأييد شاعر يدافع عن الإسلام وهذا يدل على المكانة العظيمة للأدب في الإسلام.
إن الأدباء في كل زمان ومكان هم لسان البشرية الناطق . فإذا فقد الإنسان لسانه فكيف يكون ؟ هكذا البشرية إذا فقدت الأدب .
إن نعمة البيان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان قال الله تعالى:{خلق الإنسان علمه البيان }ونحن في حياتنا محتاجون إلى الأدب لصقل اللسان وتهذيب الوجدان.
*بارقة شعرية: الأدب جنة الوجدان
إني لأعجب كيف تعطى منطقاً؟
أنشد لتدرك في الحياة سعادة
وتحس أنك في الجنان،فهل ترى ورضيت أن تبقى بغير لسان
كالطير يشدو فوق غصن البان
حمقاً كتركك جنة الوجدان
المتناسقة الخامسة: الأمة لا الفرد
*بارقة شعرية:
لي أمة كالشمس ليست تغرب إلا لتشرق ، ضؤوها لاينضب
عمت جميع العالمين بخيرها كالغيث يروي الأرض أنى يذهب
الحمد لله المبدئ المعيد ، والصلاة والسلام على المصطفين من العبيد . أما بعد :
فهل تفكرت يوما في مرور الأجيال ، وكيف ينقضي الجيل ، ويمضي أئمته وأعلام الخير فيه ؟
أليس الله سبحانه لو أراد لأبقى أعلام الخير وأهلك أهل الشر ، فبقي الأنبياء والصديقون والعلماء الصالحون على هذه الأرض وهلك أهل الشر...
وإذا لبقيت الأرض ملأى بالأنبياء والصالحين أعزة على كل المخالفين .
ولكن الله سبحانه لم يخلق عباده الصالحين ليتقوى بهم على المشركين ؛ فهو سبحانه ليس له ولي من الذل .
ولو أراد سبحانه لأهلك المشركين والمنافقين بكلمة كن فيكون ، بل لو شاء ما خلقهم ، وهم لا يملكون وقت حياتهم من الأمر شيئاً ، فالأمر كله الله ، ولكن الله خلقهم لحكمة الابتلاء ولهذا يبقيهم .
ويقبض الله من شاء من عباده ، ويبقى في الأرض الأخيار والأشرار لتكون المغالبة ويكون الابتلاء .
ويقبض الله الأفراد وتستمر الأمم ؛ قبض الله الأنبياء حتى خلت الأرض من الأنبياء ، وقبض الله الصحابة والتابعين وقبض أعلام العلماء ، واستمرت الأمة .
إن الله سبحانه يريد أن يرتبط العباد به سبحانه وتعالى ولا يتعلقوا بأحد من العباد ولو كان أفضل الأنبياء يقول تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }.
ولهذا ينبغي للأمة أن ترتبط بخالقها سبحانه وتوطن نفسها على العمل الجماعي ، ولا ترتبط بفرد معين بل توطن نفسها على العمل مع أعلامها ، فتشاركهم في العمل ولا تنحصر في أعمالهم ، ثم توطن الأمة نفسها على سد الثغرة من بعد فقد أعلامها .
لقد فقدت الأمة نبيها صلى الله عليه وسلم وارتد أكثر أهل الجزيرة فما أعظم المصيبة !
ولكن الأمة التي ارتبطت بخالقها – سبحانه وتعالى – استطاعت تجاوز الأزمة ، وهب أبو بكر وهب الصحابة معه وخلال سنتين فقط عادت الجزيرة كلها إلى الإسلام، وانتصر المسلمون على أكبر دولتين في ذلك العصر الفرس والروم في معارك كثيرة .
هكذا استطاعت الأمة أن تسد الثغرة التي حصلت بفقد النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا ينبئ عن القيادة الموفقة للنبي صلى الله عليه وسلم والتربية النبوية العظيمة ؛ فإن المصلح العظيم ليس الذي يحقق الإنجاز العظيم وحسب ، بل الذي يحافظ عليه ويرسخ قواعده ليبقى من بعده .
وهذه الأمة هي خير الأمم فقدت نبيها فأحسنت القيام بالدعوة من بعده ، فليست كبني إسرائيل مثلا كانت الأنبياء تسوسهم كلما هلك نبي خلفه نبي ، ومع ذلك كان كثير من أمة بني إسرائيل عصي على الخير ، غاب عنهم موسى عليه السلام ليالي وخلف عليهم هارون عليه السلام فعبدوا العجل حتى رجع موسى عليه السلام ثم حصل بعد ذلك كثير من التمرد والعصيان من كثير منهم إلا من رحم الله .
وأما هذه الأمة فنشرت بعد نبيها الدعوة في أنحاء الأرض ، وذلك من فضل الله عليها .
ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . وتجتمع هذه الأمة في آخر الزمان اجتماعا عظيما وتكون الدعوة لله واحدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وهذا مصداق وصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره " (حديث حسن)
وهكذا ينبغي أن تكون الأمة تعمل فيها الجماعة مع الفرد فيد الله مع الجماعة .
ثم إذا فقدت الأمة عَلَمَاً من أعلامها زادت من جهدها لتسد مكانه .
كما زاد أبو بكر والصحابة من جهدهم ليعوضوا فقد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفقد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم فقد .
وفي كل حال ينبغي أن يكون عمل الأمم عملا جماعيا متضافرا تتكامل فيه القدرات لا يسيطر عليه فرد ، ولا ينقطع بانقطاع فرد .
بل إن عظمة أعلام الأمة في أن يؤسسوا أعمالا نافعة تبقى بعدهم .
وكم رأينا من أعمال كبيرة انقطعت بانقطاع مؤسسيها مع أن الأمة قادرة على خلافة أي فرد من أعلامها ؛ وذلك بجهد مجموعة منها إذا صدقت العزم وأحسنت البذل .
إن العمل الجماعي عمل مثمر خليق بالاستمرار ، ولهذا ينبغي للأمة أن تعتمد على العمل الجماعي لتحقق مجدها .
المتناسقة السادسة:
وقفات مع الشعراء
كثيراً ما نسمع أبيات من الشعر فنقف منها موقفا وجدانيا إما مؤيدا أو مخالفا أو مشيرا إلى جانب آخر .
هكذا تتشكل المواقف في الذهن ، ثم يتطور الموقف الذهني إلى الكلام أو الكتابة تأييدا أو مخالفة أو إشارة إلى جانب آخر .
وفي الوقفات التالية سأورد بعض الأبيات التي وقفت فيها موقفاً وجدانياً أمام أبيات أحد الشعراء .
وفي هذه الوقفات بيان للطبائع الإنسانية وكشف للأعماق الوجدانية وفيها لمحات شعرية ومن هذه الوقفات :
الوقفة الأولي :
قال أبو العلاء المعري :
إن القلوب إذا تشعب ودها
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
وأقول :
ترفق بالقلوب ولا تدعها
وإن الود فيها مثل نور
تكسر إنها مثل الزجاج
وإن القلب يكسر كالسراج
هكذا هي القلوب ! وهكذا هو الود فيها .
الوقفة الثانية :
قال جرير :
فإني ولو لام العواذل مولع
بحب الغضا من حب من لا يزايله
وأقول :
هذا جرير قد تولع بالغضا
لكن لي حبا لأشجار الغضا
هي تربة فيها جذور مشاعري
من حب إلف للغضا لم يرحل
وربوعه حتى وإن لم تحلل
وبمائها المنساب خير المنهل
إن جرير لا يحب الأرض إلا لأهلها وهذا كقول الشاعر يصف شوقه حين مر بديار المحبوبة يقول :
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
ولكن حب من سكن الديارا
فهكذا حب الديار تابع لحب أهلها عندهم ، وأما أنا فأتحدث عن حب للأرض لما فيها من الجمال والخصائص ، مع حبها لأنها مرتع الصبا وموطن الأهل والصحب .
الوقفة الثالثة :
قال بشار بن برد في بيته الشهير :
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
ظمئت ، وأي الناس تصفو مشاربه؟
وأما أنا فأقول :
إذا لم يسغ لي مشربي بت صاديا
فلست الذي يغضي الجفون على القذى
(وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى)
وإن عقني الأصحاب أدلجت نائيا
ولست الذي يأتي المذلة راضيا
وفي الصبر درع الحر إن رام واقيا
إن بشار يقول : اشرب على القذى وإلا ظمئت ، ولكني أقول إذا لم يسغ لي مشربي بت صاديا ( أي عطشا ظمئا ) .
ومع هذا فلا أحسب أنه يوجد خلاف بين قول بشار والأبيات الثلاثة ؛ وذلك لأن بشار يتحدث عن الأمور اليسيرة التي لابد منها فهي كالقذى اليسير في الماء لا بد منه ،
فلا يمكن أن يصفو الماء كل الصفاء ، في كل وقت .
وأما الأبيات الثلاثة فهي تتحدث عن الأمور الكبيرة التي لا تحتمل ولهذا أقول : (إذا لم يسغ لي) وأقول : (وإن عقني) فأنا أتحدث عن شراب لا يستساغ ، وعقوق لا يحتمل .
ولهذا أقول :
فلست الذي يغضي الجفون على القذى
ولست الذي يأتي المذلة راضيا
فالذل لا يحتمل ، والقذى في العين شديد لأن العين حساسة أيسر القذى يؤذيها ، وربما يعميها . ولهذا لا مجال لإطباق الجفون على القذى .
وهكذا يظهر أن لا خلاف بين بيت بشار والأبيات الثلاثة فبيت بشار في الأمر اليسير والأبيات الثلاثة في الأمر الكبير .
ولكن تبقى الأبيات الثلاثة ردا على من يريد أن تتقبل منه كل أذى ، مستشهدا بيت بشار وأنه لا بد أن تشرب مرارا على القذى .
فإذا أتى أحد ببيت بشار مستشهداً به ليقبل منه ما لا يحتمل ، أتيته بالأبيات الثلاثة.
المتناسقة السابعة:
دعوة للرسم الإسلامي والكاركتير الإسلامي !
القلم في يد الأديب والشاعر ، والريشة في يد الرسام ، صنوان متشابهان ... كلاهما لسان القلب وناطق عن الوجدان ...
ونحن نسمع كثيرا عن الأدب الإسلامي وهناك رابطة عالمية للأدب الإسلامي ، وهناك مجلات متخصصة في الأدب الإسلامي ، وهناك أدباء إسلاميون مشهورون ولكننا لا نسمع عن الفن الإسلامي ،رغم أن الرسم هو قرين الأدب ، أو هو نوع من الأدب .
والفرق بين الأديب والرسام أن الأديب أو الشاعر يعبر عن خواطر قلبه بقلمه . وأما الرسام فيعبر عن خواطر قلبه بالريشة التي تنقل العوالم الكبرى إلى اللوحة الصغيرة بعد أن يضفي عليها الرسام من فنه ، كالشاعر ينقل العوالم الكبرى إلى القصيدة .
والرسم كالأدب يحوي الفن ويحوي الرسالة المعبرة ومن هنا تأتي مكانة الرسم فهو يستطيع أن ينقل الرسالة بقوة الفن المؤثرة فتتعمق في القلوب.فالرسوم المعبرة سهام نافذة إلى القلب، فتأثير الرسمة كالكلمة ؛ وإذا كان تأثير الكلمة لا يخفى ، كما ورد في الحديث إن من البيان لسحرا ، فهكذا الرسمة تستطيع أن تحمل الرسالة القوية وتؤثر تأثيرا عظيما نافذا في الوجدان .
بل إن الرسمة الصغيرة قد تغني عن كثير من الكلمات فالرسمة أحيانا تكون أوجز وأسرع في نقل المضمون ولأجل هذا التأثير العظيم للرسم أصبحنا في حاجة إلى تسخير هذه الموهبة العظيمة للخير .
والرسم الإسلامي يحوي الفن أولا ويحوي الرسالة ثانيا .
ويتميز الرسم الإسلامي بوجود ضابط ظاهر وهو عدم تصوير ذات الأرواح فلا مجال في الرسم الإسلامي لتصوير الوجوه بخلاف ما عليه عامة الرسم الآن ، من الاعتماد على تصوير ذوات الأرواح .
ونحن ندعو إلى إيجاد هذا الرسم الإسلامي والعناية به لما يحققه من أهداف كبيرة .
ولا شك أن هناك بعض المحاولات الصغيرة في هذا المجال ولكنها محاولات مغمورة لا زال صداها خافتا ، لم تصل إلى تشكيل تيار قوي .
إننا نتحدث عن رسم فيه مهارة وفيه رسالة معبرة خيرة مع الالتزام بعدم تصوير ذوات الأرواح .ونحن ندعو إلى تقوية هذا الرسم الإسلامي وتأسيس مدرسة راسخة له ، وندعو إلى تعاون وثيق ين الموهوبين الملتزمين ليصبح الرسم الإسلامي قرينا للأدب الإسلامي .
ونود أن نركز الحديث على نوع خاص من الرسم الإسلامي وهو الرسوم المعبرة الخفيفة.والأفضل تسميتها بالرسوم بدلا من الصور تحاشيا من اللفظ الذي ورد فيه التحذير الشرعي ،ففي الصحيحين حديث : " المصورون أشد الناس عذابا يوم القيامة " والصورة في الحديث تعني تصوير ذوات الأرواح ، بينما الرسم الإسلامي ليس فيه تصوير الوجه من ذوات الأرواح ولهذا نسميها رسوما معبرة وهذا الأفضل لغة وشرعا .
والرسوم المعبرة الخفيفة تقدم ما يمكن تسميته بالرسم الضاحك . وهو ما يمكن أن يكون
بديلا عن ( الكاركتير ) وهي الرسوم الخفيفة المشهورة حاليا.
فالرسوم المعبرة مجردة أو مصحوبة بالكلمة يمكن أن تقدم الرسم الإسلامي الضاحك أو(الكاركتير الإسلامي) وفي هذه الرسوم المعبرة مجال واسع للريشة الناطقة،ووسيلة كبيرة في الدعوة .
والمرجو من هذا الفن أن يتقدم أكثر ليؤدي رسالته الخيرة ويكون قريناً للأدب الإسلامي.ونحن نأمل بالمستقبل المشرق بإذن الله !
*بارقة شعرية: رسام المشاعر
أنا لست بالرسام لكن شاعر رسمي بشعري ليس بألوان
فلترسم اليد ما تشاء فرسمتي نبض المشاعر في جنان حان
أنا راسم المعنى البديع وكنهه بمحاسن الألفاظ والأوزان
المتناسقة الثامنة: رياحين الأفئدة
إن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم خلق له من ضلعه زوجه حواء ليسكن معها في الجنة.وقد خلق الله حواء من ضلع آدم لتكون أقرب إلى قلبه فيأنس بها ويتم نعيمه؛ولهذا كانت المرأة سكناً ومودة لقلب الرجل قال تعالى:
{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة
ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}
وعبر التاريخ المديد نجد كثيرا من النساء العظيمات كن أروع مثال في العطاء،وكن عوناً لرجال عظماء في الخير ونشر الحق.
ولكن مع هذا الجانب المشرق هناك جانب آخر فإذا أردنا التوازن في علاقة الرجل بالمرأة فلننظر للجانبين معاً.يقول الله تعالى:{إن كيدكن عظيم}
ويقول تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم}
وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء :تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم.فقالت امرأة:لم يا رسول الله .قال:لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير.
وفي الصحيحين :ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء.
وفي الصحيحين :ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن.
وفي الصحيحين: إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها و بها عوج ،وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها.
والأحاديث في هذا كثيرة.
إن بعض الرجال حين ينظر للمرأة لا يرى إلا هذا الجانب جانب نقص عقلها فقط، واعوجاج الضلع الذي خلقت منه فقط،مع أنها خلقت من ضلعه لتكون أقرب لقلبه،وإنما نقص عقلها بسبب قوة عاطفتها ؛ لتكون أحن على الرجل وعلى أولاده ، ولتكون أقرب قلباً.
*بارقة شعرية: رب نقص كالكمال
ما لقلبي ذا نفور
هن – حقا – مائلات
ناقصات العقل لكن
رب حس في اعوجاج
أو ما يحسن في السيـ
أو ما يبهج حني الغصـ
أو ليست خفة الطيـ
مثلها نقص الغواني
إنما هن رياحيـ
هن كالغيم بلطف
هن ليل شاعريّ
إن فيض القلب أغنا
من رقيقات الجمال ...
مغرقات في الخيال ...
رب نقص كالكمال ...
وجمال في اختلال ...
ـف انثناء في النصال ...
ـن أو قوس الهلال ...
ـر علت فيه الأعالي ...
هو تاج ذو جلال ...
ـن وواحات الظلال ...
وعطاء ذي انثيال ...
ونجوم كاللآلي ...
هن عن عقل الرجال ...
ومن القصص المروية عن علاقة الرجال بالنساء :أن امرأة سمعت رجلاً ينشد بيتاً من الشعر يذم فيه النساء يقول:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين
فأجابته المرأة:
إن النساء رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين
والحقيقة لو تأملنا في هذه المحاورة بين هذا الرجل وهذه المرأة لوجدنا الرجل نظر للجانب المظلم من النساء ،والمرأة نظرت للجانب المشرق من النساء .وأما حقيقة النساء فإن منهن رياحين ، ومنهن شياطين ، كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:النساء ثلاثة ،امرأة عفيفة هينة ،ودود ولود ،تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها،وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئاً، وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
*بارقة شعرية:
بعض النساء مصائب لا تنتهي فكأنها بحر من الأكدار
من يشرب الملح الأجاج فإنه يزداد في ظمأ مع الاكثار
وختاماً فإن الإنصاف أن يعرف الرجل أن النساء أصناف،فمنهن رياحين الأفئدة،ومنهن مصائب لا تنتهي ما دام في الدنيا . فليحذر الرجل أن يذم كل نساء الأرض لذنب واحدة، وليحذر أن يثني على كل نساء الأرض لفضل واحدة؛ بل يعرف لكل واحدة منهن منزلتها ،ويحرص على إصلاحها والقوامة عليها كما قال تعالى:{الرجال قوامون على النساء}.وليحرص الرجل على الإحسان إلى المرأة كما في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم:خيركم خيركم لأهله،وأنا خيركم لأهلي.
وكما في الحديث الصحيح أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال:اتقوا الله في النساء؛فإنكم أخذتموهن بأمانة الله.
المتناسقة التاسعة: حكم العقل
محاورة أدبية حول قصيدة في وصف الجبل
كنت أسير ذات يوم في سهل فسيح وقد اكتست الأرض بالخضرة وتحلت السماء بالزرقة في سحب بيضاء رائعة،وشمس هادئة دافئة،وقد باكر الأرض مطر لما يزل باق منه أثره،وقد انتشر في الفضاء عطره ،وكنت أسير في نفس هادئة صافية أحسها لفرط السعادة لا تكاد تقر على الأرض،أتأمل في كل ما يقع عليه بصري،وأجول في تلك المناظر ناظري ،وأسبح بحمد ربي ، وأتلو قوله تعالى :{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}
والريح ما بين ذلك تمر بي فتتلطف،والنسيم الهادئ يفيض على نفسي السكون ولا يكاد يتوقف.فأشعر بالسرور قد تملك خافقي وهيج عواطفي...
وبينما النفس في حبورها ، قد حلقت في سرورها؛ إذ تراءى لي جبل شامخ فلما دنوت منه راعني منظره،ودهشت لعظمه،وأنساني كل ما رأيت قبله،فجعلت أنظر إليه،وأتفكر فيه،وأدركت كم يغفل المرء عما أبدعه الله وأحكمه،ودعاه للتفكر فيه ،قال تعالى:{أفلا ينظرون...}حتى قال : {وإلى الجبال كيف نصبت}ما أعظمه من جبل كأنما امتد إلى السماء كي يصافحها،وما أروعه من منظر كأنما جعله الله بالجنة مذكرا.
لكم أشعر بالسرور والدهشة،أشعر كأن مشاعر قلبي قد ثارت وتداخلت،
أحس كأني في وقوفي أمام الجبل كأنما أريد أن أصغي إليه،وأستمع كلامه. قال تعالى:{وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}..كأنما هذا الجبل الشامخ شيخ حكيم حنكته السنين يتحدث عن تجاربه وخلاصة رأيه..
ها هنا تداعى لخاطري، وقفز أمام ناظري، قصيدة شاعر الوصف ابن خفاجة الأندلسي،ظننت كأنه قال ما أريد قوله الآن،فرفعت صوتي وذهبت أترنم بالقصيدة فتحركت لها مشاعري ونبعت من صميم قلبي....يقول الشاعر:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب
يسد مهب الريح من كل وجهة ويزحم ليلا شهبه بالمناكب
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مطرق في العواقب
يلوث عليه الغيم سود عمائم لها من وميض البرق حمر ذوائب
أصخت إليه وهو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب
وقال:ألا كم كنت ملجأ فاتك وموطن أواه تبتل تائب
وكم مر بي من مدلج ومؤوّب وقال بظلي من مطي وراكب
وأتيت على كل القصيدة،وخرجت منها وفي فمي حلاوتها،وحسن طلاوتها.
وبينما أنا كذلك إذ هتف هاتف من خلفي فالتفت إليه وإذ به أحد أصحابي وفي وجهه ابتسامة وتهكم وهو يقول ويردد:ما أصغر عقولكم!وما أجهل تفكيركم!
فذهلت وقلت:لماذا كل هذا؟ فقال:بالعقل ماذا يفعل شاعركم هذا؟ أيخاطب جبلاً؟!!
أيظن أنه قد نفثت فيه الروح فأصبح يسمع ويتكلم!أيظن الجبل رابضاً ينتظر من يمر به فينظر إليه ويكلمه! ثم ماذا ينتفع الناس من هذا الشعر؟إنما هذا عبث نشأ عن الفراغ ونوع من الأوهام والخيالات . فقلت:والله لم أر منطقاً أبرد من هذا ! ولا حججاً أوهى من هذه!
قال الشاعر:حجج تهافت كالزجاج تخالها حججاً وكل كاسر مكسور
لكنما ها هنا شيخ حكيم عرف الدنيا وسبرها،وجرب الأيام وخبرها،وهو قريب من هنا فإن شئت صرنا إليه فتحاكمنا لديه؛فإنه ذو رأي صائب، وعقل حاذق،وإنه بمثل هذا أدرى.قال تعالى :{ولا ينبئك مثل خبير}.
قال:لا أرى مانعاً من ذلك؛فإنه شئ لا يخفى على ذي رأي ،ولا يلتبس على ذي لب،إذا تأمل فيه حق التأمل.قلت:حسناً. فسرنا إليه حتى بلغناه.فدخلنا عليه وإذا به شيخ قد كسته المهابة حللها ، وتراه كأنما الحكمة تنبع بين عينيه فتكبره وإن لم تخبره..
فسلمنا فرد السلام ،ورحب بنا ترحيب الكريم بضيفه ،وترحيب المشتاق بأهله.
فبادرته قائلاً:إننا قد جئناك في خصومة ونحن نؤمل سديد رأيك وصائب حكمك.
فقال الشيخ:لا بأس،إني مستمع إليكما فليدل كل منكما بحجته.ثم ابتسم وقال:فمن منكما يبدأ بالكلام،وتسديد السهام؟.
فاندفع صاحبي وقال:بينما كنت أسير إذ رأيت صاحبي هذا وقد وقف أمام جبل متصنما، وقد رفع صوته مترنما،بقصيدة ابن خفاجة المعروفة في وصف الجبل فدنوت منه وقلت: بالعقل ماذا يفعل شاعركم هذا؟ أيخاطب جبلاً؟!! إنما هذا عبث نشأ عن الفراغ ونوع من الأوهام والخيالات .فطلب صاحبي أن نتحاكم لديك وها نحن بين يديك..
والأمر واضح .فكم من إنسان في هذه الدنيا قد أضاع عمره فيما لا طائل تحته ولو تفكر لظن بجهده أن يصرفه فيما لا نفع فيه.
يقول الشاعر: من علا رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
والأدهى والأمر أن يعجب كثير من الناس بالشعراء الذين أضاعوا أعمارهم فيما لا نفع فيه ،كهذا الشاعر في مخاطبته للجبل فتجد كثيرا من الناس يثنون على هؤلاء الشعراء في كل موطن كأنهم قد فعلوا العظائم وأتوا بما لم تستطعه الأوائل قال تعالى:{والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون}
ما هذا الشاعر في مخاطبته للجبل إلا شاعر هائم يتبعه الغاوون قد ذهب به خياله كل مذهب ..لو كان مر بمسكين فأعطاه،أو جائع فأطعمه،أو عار فكساه لانتفع هو وانتفع الناس بدلا من كلام في كلام لا مغزى منه ولا طائل تحته.
لو كان كلامه دفاعاً عن الإسلام وتوضيحا لدين الله ،أو كان كلامه حكمة ، أو كان حثاً على المعالي لأصاب.
أما أن يخاطب الجبل و يجعل الجبل يتكلم إليه فلا أظن عقلاً يقرّ هذا ويرضاه.
وهنا سكت صاحبي. فخلعت عن سيفي غمده وتحدثت فقلت:أما وقد حكم صاحبي العقل ؛ فإني لن أتحدث إلا بمنطق العقل ولن أتكلم إلا بحججه .
إن العقل لو تأمل لرأى في قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل وأمثالها فوائد كثيرة.
فأول ما أرى من تلك الفوائد:التفكر في مخلوقات الله وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين فقال: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } بل يقول تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت} الجبال !!!
ومن تفكر في بدائع صنع الله ازداد إيمانه ولهذا حث الله على التفكر قال تعالى:{أفلا تتفكرون}.
وقريب من هذه القصيدة قول الشاعر:
تفكر في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأبصار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
*بارقة شعرية :
ولي أبيات في هذا المعنى من قصيدة "حيرة العقول " أقول لمن يفتخر بعقله ثم يعرض عن آيات الله في الكون :
ويرى الجمال فلا يهز فؤاده حسن الطبيعة ليس يجدي من كفر
ويرى الدلائل في الوجود نواطقاً فيها لمن قد كان ذا رأي عبر
في الجدول المنساب بين خمائل ، في بسمة الأزهار ، في نور القمر
في ظلمة الآفاق ، في صمت الفلا ، في دقة الأفلاك ، في لطف السحر
في شدو أطيار تغرد بكرة ، في الشمس تشرق فوق مرآة النهر
في كل ما خلق الإله دلائل فيها من الإعجاز ما يحي الفِطَر
فيها من الآيات ما يهدي الورى أتراه لم يبصر وبالعقل افتخر؟
أبصر فليس العقل يجدي من عمي وانظر لحسن الكون في شتى الصور
ولهذا فإن الفائدة الأولى لقصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل وما أشبهها هي فائدة كبيرة وهي: التفكر في مخلوقات الله .
وأما الفائدة الثانية فهي:إلباس الحكمة ثوباً حسنا فأرى من محاسن القصيدة أن الشاعر لم يقم واعظاً يأمر وينهى،ولم يسرد الحكمة سردا وإنما أفاض عليها من فنّه، فخرجت في ثوب قشيب جميل، وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر وإلا فإن أدوات شعره لم تكتمل. استمع إلى ابن خفاجة إذ يقول على لسان الجبل:
وقال:ألا كم كنت ملجأ فاتك وموطن أواه تبتل تائب
وكم مر بي من مدلج و مؤوّب وقال بظلي من مطي وراكب
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى وطارت بهم ريح النوى والنوائب
أفليست هذه دعوة للاعتبار؟!
قال الشيخ الحكيم:هذه الفائدة الثانية للقصيدة،فهل لديك فائدة ثالثة ؟!
قلت :نعم ثالثة ورابعة.
أما الفائدة الثالثة فهي: صقل الموهبة وذلك أن الأدب والشعر منهل، فمن أراد أن تكتمل مهارته،فلا بد أن يرتوي من شعر أسلافه .
*بارقة شعرية:
ولهذا أقول:
إذا ما عشتُ في الدنيا ودرّ الشعر كالمطرِ
وعشت بها على ظمأٍ فقل بالله ما عذري
فإذا ارتوى الشاعر والأديب من شعر أسلافه وأدبهم ، واشتد عوده ، و قويت قريحته،وأراد أن يقول في الأغراض السامية والمعاني الشريفة أتى بالروائع ؛فنصر الله به الإسلام وأهله،وسُرّ به جنود الإيمان وحزبُه،وأوغل في الأعداء ضربُه.
فقال الشيخ الحكيم:أصبت! ما أحسن ما قلت!.فاحتدّ صاحبي ولوح بيده غاضباً وقال:عجباً لكم ألا تتدبرون؟!أما في بلاغة القرآن والسنة كفاية لمن صح نظره وسلم عقله!فقال الشيخ : هدئ من روعك قليلاً! ثم التفت الشيخ إليّ وقال:أكمل حديثك. فقلت:كنت أقول :إن الفائدة الثالثة هي :صقل الموهبة،وأما قول صاحبي أما في القرآن والسنة كفاية . فإني أجيب فأقول:إن القرآن والسنة معين لا ينضب من البلاغة ولذلك كان شعراء الإسلام لابد للواحد منهم أن يقرأ القرآن ويحفظ منه وكذلك السنة،ولكن مع ذلك لابد للشاعر والأديب أن يقرأ شعر السابقين وأدبهم ويحفظ منه؛لأن القرآن والسنة ليسا كهيئة الشعر وهذا من صميم الإسلام،فالله سبحانه وتعالى يقول عن القرآن: {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} ويقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} ولأن القرآن والسنة ليسا كهيئة الشعر كان للرسول صلى الله عليه وسلم شاعره ، وكان للإسلام شعراء ينافحون عنه في صدر الإسلام مع أن القرآن ينزل فيهم، ورسول الله بين ظهرانيهم، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه حاثاً له على هجاء أعداء الإسلام:اهجهم وروح القدس معك.
ثم قلت:وأما الفائدة الرابعة فهي:تربية الذوق السليم وتنميته لكي لا تتصلب القلوب فتصبح جامدة لا ترى مواقع الجمال ولا مواطن الإبداع؛ ولهذا كان السلف يروون أولادهم الأشعار بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما ذكر البيت والبيتين وكان يستنشد الشعر أصحابه ، وكان يعجب به إذا سمعه وهذا يدل على نفس صافية وروح شفافة . وإذا كان المرء على معرفة بالأدب كان عارفاً بالكلام وفصاحته وبلاغته ؛ولهذا يكون من أعرف الناس ببلاغة القرآن معرفة نظر وتبصر.ولهذا لما كان الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أهل فصاحة وبلاغة لم تشتبه عليهم بلاغة القرآن المعجزة ،وأما حين ضعفت لغة الناس وبلاغتهم ظهر من يشكك في إعجاز القرآن فوقف في وجوههم أدباء العلماء،وألفوا الكتب وبينوا مواطن الإعجاز في القرآن الكريم.
وليسمح لي صاحبي أن أقول :لو أن لصاحبي تلك الروح الصافية الشفافة ما تصلب قلبه دون القصيدة .وحاشاه أن يكون كما قال الشاعر :
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
فابتسم صاحبي ،وابتسمت ،ثم قلت :هذه الفوائد الأربع هي أبرز فوائد هذه القصيدة وما أشبهها من القصائد ،ثم سكت.
فقال الشيخ الحكيم:أظنكم قد فرغتم قلت:نعم وقال صاحبي:نعم.
فاعتدل الشيخ الحكيم وقال :أما إني استمعت إليكما،وتفهمت مقاليكما ،وحاولت أن أفهم من كلٍ منكما ما يريد وإن لم يقله،فإن شئت قلت لكما حكمي .
فقلنا له: لذلك أتينا.فالتفت الشيخ إلى صاحبي وقال:إني أقدر فيك طلبك للمعالي،ولكني بعد أن استمعت حججكما،وتدبرت كلامكما،أرى بحكم العقل المجرد أن لهذه القصيدة وما أشبهها فوائد جمة يراها المتأمل فيكبرها،ولكنما عليه أن ينفذ في حقائق الأمور.
وإن الكلام يسمو بحسب مقصده ونفعه،وما أحسن المعاني الطيبة تصاغ بالأساليب البليغة التي توصلها للقلوب.وإن المرء إذا احتسب في شعره و أدبه فله فيه أجر.وإن الأدب البليغ
إذا كان في خير فإنه منبر حق ينفع الله به من يشاء.
ثم سكت الشيخ الحكيم و عمّ المجلس سكون.
فقال الشيخ لي:أما وقد فرغنا من التحاكم.فهل لك أن تنشدنا قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل فإننا قد أطلنا فيها الخصام ، وأسهبنا في الكلام. ومع أننا جميعاً نعرف القصيدة من قديم،وما هي إلا قائمة عن ما شابهها في هذا المقام،إلا أن من المناسب أن نسمعها الآن.فهل لك أن تنشدنا هذه القصيدة كلها ؟
فقلت:حباً وكرامة.هذه القصيدة هي رائعة الشاعر الأندلسي ابن خفاجة"شاعر الوصف" وعين قصائده،وبعد مقدمة يخلص إلى وصف الجبل وهو موضوع القصيدة فيقول:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب(1)
يسد مهب الريح من كل وجهة ويزحم ليلا شهبه بالمناكب
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مطرق في العواقب
يلوث عليه الغيم سود عمائم لها من وميض البرق حمر ذوائب(2)
أصخت إليه وهو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب(3)
وقال:ألا كم كنت ملجأ فاتك وموطن أواه تبتل تائب (4)
وكم مر بي من مدلج ومؤوّب وقال بظلي من مطي وراكب(5)
ولاطم من نكب الرياح معاطفي وزاحم من خضر البحار جوانبي
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى وطارت بهم ريح النوى والنوائب
فما خفق أيكي غير رجفة أضلع ولا نوح ورقي غير صرخة نادب(6)
وما غيض السلوان دمعي وإنما نزفت دموعي في فراق الأصاحب
فحتى متى أبقى ويظعن صاحب أودع منه راحلاً غير آيب
وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا فمن طالع أخرى الليالي وغارب
فرحماك يا مولاي دعوة ضارع يمدّ إلى نعماك راحة راغب
فأسمعني من وعظه كل عبرة يترجمها عنه لسان التجارب
فسلى بما أبكى ،وسرّى بما شجا وكان على ليل السرى خير صاحب
- تمت -
__________________
معاني الكلمات الغريبة:
(1) أرعن:الجبل المرتفع . طماح:المرتفع كثيرا. باذخ:العالي. غارب:أعلاه
(2)يلوث:يلف. ذوائب:جمع ذؤابة وهي الناصية.
(3)أصخت:استمعت وأصغيت
(4)فاتك:شجاع جرئ. أواه: تائب منيب. تبتل:انقطع للعبادة
(5)مدلج:سائر بالليل.مؤوّب:سائر بالنهار.قال بظلي:نام وقت القائلة وهي منتصف النهار
(6)أيك:الشجر الكثيف الملتف. ورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.
*المرجع:ديوان ابن خفاجة ص215
المتناسقة العاشرة:
روح الأديب
*بارقة شعرية
إن حلق الطير المغر
فكأنه روح الأديـ
د في السماء فرفرفَ
ـب إذا سما فتلطفَ
روح الأديب روح خلقت لتحلق في السماء ...
يحملها جناح الإبداع فيسمو بها إلى العلياء ...
روح الأديب هي الروح الشفافة الصافية التي تترقرق كصفحة الماء أو كخيوط الضياء ...
وهي الروح السامية المنطلقة في رحاب الفضاء ، كالشاعر لا يحس بلحظة الإشراق حتى يحس روحه محلقة في الكون تجتاز آفاق السماء ...
وهي الروح ذات الطابع العلوي ، والنسيم القدسي ، والوحي الروحي ...
وإذا كان في الروح البشرية سر لا يعلمه إلا الله ففي روح الأديب سران : سر الحياة وسر النبوغ والإلهام ... إن روح الأديب هي الروح التي ترى الجمال في الدنيا ...
هي الروح التي تحس بحفيف الأشجار ، وتغريد الطيور ،وخضرة الرياض ، ونسيم الحقول ، وسطوع النجوم ، وزرقة السماء ، وضياء الشمس ، ونور القمر ، وهدوء الليل ، وروعة السحر ...
إن روح الأديب هي روح الجمال في الكون ...
المحتويات
المقدمة
الأولى:تحميدات
الثانية:أبشر فقد قرب الصباح
الثالثة: سعادة الأرواح
الرابعة: مكانة الأدب
الخامسة:الأمة لا الفرد
السادسة:وقفات مع الشعراء
السابعة: دعوة للرسم الإسلامي
الثامنة: رياحين الأفئدة
التاسعة:حكم العقل
العاشرة:روح الأديب
والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.