مؤلفات ماجد بن عبدالله الطريّف العلمية والأدبية

كتاب:توضيح الولاء والبراء



   توضيح الولاء و البراء

أسهل كتاب في شرح عقيدة الولاء والبراء مع فتاوى معاصرة مهمة

          تأليف
     ماجد بن عبد الله الطر يّف

رابط كتاب : توضيح الولاء والبراء في جوجل درايف.





بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ,
وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد :
فإن الولاء و البراء أوثق عرى الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله , والحب في الله والبغض في الله) (حديث حسن)
والولاء والبراء من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله ، ولا يبغض إلا لله ، ولا يواد إلا لله ، ولا يُعادي إلا لله ، وأن يحب ما أحبه الله ، ويبغض ما أبغضه الله).(الاحتجاج بالقدر ص62)
والولاء والبراء  موضوع جلل, والحديث عنه يحتاج إلى بحث وبسط وتفاصيل كثيرة,
و أسأل الله أن ييسر لي إيضاح هذا المبحث ،وتجلية جوانبه، وأسأل الله      أن يجزل    الثواب، و ينفع بالكتاب .إنه جواد كريم ..
                                                 والحمد لله رب العالمين



                   

المبحث الأول :تعريف الولاء والبراء  لغة واصطلاحا .

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنه والجماعة في الولاء والبراء

المبحث الثالث:مظاهر موالاة المؤمنين

المبحث الرابع:بيان موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع

المبحث الخامس: البراءة من المنافقين

المبحث السادس:النهي عن موالاة الكافرين وبيان مظاهرها

المبحث السابع: ضوابط في الولاء والبراء

المبحث الثامن:أحكام التعامل مع الكفار












المبحث الأول :تعريف الولاء والبراء  لغة واصطلاحا :
الولاء لغة : بمعنى الموالاة .. والمولى: اسم يقع على معان كثيرة فهو الرب , والمالك والسيد, والمنعم, والمعتق والناصر , وهذه المعاني كلها تدور حول النصرة والمحبة والولاية بالفتح _ في النسب والنصرة والعتق ..
والموالاة _ بالضم _ من والى القوم .. والموالاة ضد المعاداة والولي ضد العدو .
قال تعالى :{ الله ولي الذين آمنوا} أي وليهم في نصرهم على عدوهم وإظهار دينهم على دين مخالفيهم وقيل وليهم أي يتولى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم ..
والولي : القرب والدنو والموالاة والمتابعة ..
والتولي يكون بمعنى الإعراض , ويكون بمعنى الإتباع ,
 قال تعالى {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} أي أن تعرضوا عن الإسلام،
وقال تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }
أي من يتبعهم وينصرهم .

وأما البراء لغة : فقال ابن الأعرابي برى إذا تخلص وبرىء اذا تنزه وتباعد وبرىء إذا أعذر وانذر ومنه قوله تعالى { براءة من الله ورسوله } أي إعذار وإنذار .            والبراء والبريء سواء قال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون } وليلة البراء ليلة يتبرأ القمر من الشمس وهي أول ليلة في الشهر.
(انظر للتعريف اللغوي للولاء والبراء  : لسان العرب/لابن منظور (ج1/183) و(ج3/986). والقاموس المحيط/ للفيروزآبادي (ج1/8) ).

وأما الولاء اصطلاحا فهو: النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين قال تعالى :{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات }
فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا.

وأما البراء بالمعنى الاصطلاحي : فهو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.
(انظر للتعريف الاصطلاحي للولاء والبراء شرح الطحاوية (ص403) وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد (ص422) .)

وفي شرح تعريف الولاء والبراء قال ابن تيمية رحمه الله
( الولاية ضد العداوة وأصل الولاية : المحبه والقرب وأصل العداوة: البغض والبعد . والولي والقريب يقال هذا يلي هذا . بأي يقرب منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر" أي لأقرب رجل الى الميت.. فإذا كان ولي الله هو الموافق التابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه . كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى { يا أيها الذين امنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} فمن عادى أولياء الله فقد عاداه .
 (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيميه ص7 )


ومما سبق يتضح أن الولاء في الله هو: محبة الله ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم.    والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. وعلى ذلك جاءت التسمية في القرآن  للفريق الأول: بـ"أولياء الله"، والفريق الثاني: بـ"أولياء الشيطان" قال تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}

ومسمى الموالاة لأعداء الله يقع في شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الاسلام

بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات.






















المبحث الثاني: عقيدة أهل السنه والجماعة في الولاء والبراء :
من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم يدين بكلمة التوحيد أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها ؛ فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم   قال تعالى :{ إنما المؤمنون أخوة }.
 ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم. قال تعالى :  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي                 وَعَدُوَّكُمْ  أولياء }
وهذا من ملة إبراهيم عليه السلام والذين معه الذين أمرنا بالاقتداء بهم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ[ [الممتحنة:4].
وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ [المائدة:51]

والولاء والبراء شرط في الإيمان : كما قال تعالى ]تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ _ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُون[ [المائدة:80،81] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:7/17) عن هذه الآية : "فدل ذلك على : أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب"أ.هـ.

 ولما عقد الله الأخوة بين المؤمنين كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين أن كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان. والولاء والبراء تابعان للحب والبغض .. وأصل الايمان أن تحب في الله وتبغض في الله.
وقد ورد عن  ابن عباس رضي الله عنهما قوله : (من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادي في الله فإنما تنال الولاية بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا) 1.هـ   ( حلية الأولياء عن ابن عباس (1/312))
وإذا كان حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يذكر أن عامة مؤاخاة الناس في زمانه وهو في القرون المفضلة  قد أصبحت على أمر الدنيا وأن ذلك لا يجدي على أهله شيئاً،.فكيف حال الناس في الولاء والبراء في زمننا هذا ؟ والله المستعان.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ( على المؤمن ان يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانيه .. قال الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهما , فليتدبر المؤمن :- ان المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك وإعتدى عليك , والكافر تجب معاداته وأن اعطاك وأحسن إليك , فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه , والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه, وإذا اجتمع في الرجل الواحد .. خير وشر , وفجور وطاعة ومعصية , وسنة وبدعه استحق من الموالاة  والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب مافيه من الشر, فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانه كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنه والجماعة , وخالفهم الخوارج المعتزله ومن وافقهم ) 1.هـ . ( مجموع فتاوى ابن تيمية ج28/208 – 209)

وعلى ما تقدم فالناس في نظر أهل السنة والجماعة بحسب الولاء والبراء              ثلاثة أصناف :
1- من يحب جملة . وهو من آمن بالله ورسوله , وقام بوظائف الاسلام علما وعملا وانقاد لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فأحق الناس بالمحبة والموالاة هم رسل الله .ثم   الصديقون والشهداء والصالحون بحسب منزلتهم في إيمانهم وصلاح أعمالهم، وأولى من يدخل في ذلك  صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}  

2- من يحب من وجه ويبغض من وجه وهو المسلم الذي خلط عملا صالحا و اخر سيئا, فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير , ويبغض ويعادي على قدر ما معه من الشر, ومن لم يسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
 كان رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم  يشرب الخمر كثيرا فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده, فلعنه رجل وقال : ما أكثر مايؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم   "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"
(أخرجه  البخاري في صحيحه كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (ج12/75 ح 6780) )
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه(أخرجه أبو داود وصححه حديث رقم 3243)

3- من يبغض جملة وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أو ترك أحد أركان الإسلام الخمسة أو أشرك بالله في عبادته أحدا. فأهل السنة والجماعة يتبرأون ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.
قال الله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}
وقال تعالى { يآ أيها الذين  امنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } .

وأهل السنة والجماعة يتولون المؤمنين ولو حصلت خصومات بينهم قال تعالى          {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة} فهم إخوة مع الاقتتال والبغى .
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا .سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل قيل :أمشركون هم ؟  قال:من الشرك فروا؟. قيل :أمنافقون هم؟ . قال:إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.قيل فمن هم ؟ قال:هم إخواننا بغوا علينا.       (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى رقم:25205)
يقول شيخنا محمد العثيمين رحمه الله في مجموع الفتاوى فتوى382:
(وإذا كان مؤمن عنده إيمان وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء الكريه الطعم وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغب فيه لأن فيه شفاء من المرض.
وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر، وهذا من العجب وهو قلب للحقائق، فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} .
وقال تعالى فيمن قتل مؤمناً عمداً :]فمن عُفِيَ له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان[. فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول مع أن القتل ـ قتل المؤمن عمداً ـ من أعظم الكبائر قال تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: ]وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما[. إلى قوله: ]إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم[. فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان ولا من الأخوة الإيمانية.
فإن كان في الهجر مصلحة أو زوال مفسدة بحيث يكون رادعاً لغير العاصي عن المعصية أو موجباً لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذٍ جائزاً بل مطلوباً طلباً لازماً أو مرغباً فيه حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها. ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ وهم الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك فقد أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم، بهجرهم ونهى عن تكليمهم فاجتنبهم الناس، حتى إن كعباً - رضي الله عنه -دخل على ابن عمه أبي قتادة - رضي الله عنه -وهو أحب الناس إليه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام. فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله - عز وجل - والتوبة النصوح والابتلاء العظيم ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.
أما اليوم فإن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم ونفوراً وتنفيراً عن أهل العلم والإيمان فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول: إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاء أو كان فيه إشفاء وهو الهلاك فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوباً.
وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا فالأقرب النهي عنه لعموم قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة".ا.ه
(مجموع فتاوى ابن عثيمين الفتوى رقم 382)
المبحث الثالث :مظاهر موالاة المؤمنين
المسلم أخو المسلم يحبه في الله ويواليه، وعلى هذه المحبة والموالاة  تنبني حقوق المسلم على المسلم، من  النصرة، والمواساة والزيارة، والإكرام، والسلام، وحماية العرض، وغير ذلك كثير مما هو منصوص عليه في الكتاب والسنة.

ولابد من معرفة أبرز صور موالاة المؤمنين ومظاهرها حتى يكون المؤمن حريصا على إظهارها لإخوانه المؤمنين . ومن هذه المظاهر:

1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين.
والهجرة هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها. أو كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام. قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}

2- مناصرة المسلمين والجهاد معهم ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في    دينهم ودنياهم. قال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ٍ}.
وقال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ }    

3- السرور لسرورهم التألم لألمهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
(أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم6011)
  وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين    أصابعه صلى الله عليه وسلم".
(أخرجه البخاري حديث رقم 481     وأخرجه مسلم حديث رقم 2585)
4- النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
(أخرجه البخاري حديث رقم13)

وقال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولايسلمه،ومن كان في حاجة أخيه              كان الله في حاجته"
(أخرجه البخاري حديث رقم 2442و6951)

5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم.
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}

6-  أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء.
بخلاف أهل النفاق الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء ويتخلون عنهم في حال الشدة.
قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}


7- زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم.
وفي الحديث القدسي: (وجبت محبتي للمتحابين في ،و للمتجالسين في،و للمتزاورين فيَّ ،وللمتباذلين في).
(أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 5/146 وصححه الألباني في صحيح الترغيب حديث2581و3018)
 وفي حديث آخر: أن رجلاً زار أخًا له في الله فأرصد الله على مدرجته ملكًا – فسأله أين تريد؟ قال أزور أخًا لي في الله، قل: هل لك من نعمة تربها عليه، قال لا: غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه.
   (أخرجه مسلم حديث رقم2567)

8-   احترام حقوقهم.
فلا يبيع على بيعهم ونحو ذلك مما سبقوا إليه من المباحات.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
            " لا يبع أحدكم  على بيع أخيه ".
(أخرجه البخاري حديث رقم2139)

9- الرفق بضعفائهم.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم".
(أخرجه البخاري حديث رقم 2896)
وقال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ  وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

10- الدعاء لهم والاستغفار لهم.
قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
وقال سبحانه: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان}


- المبحث الرابع :بيان موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع

قال البغوي رحمه الله ( وقد اتفق علماء السنة على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم)
والبدعة تنقسم إلى رتب متفاوتة منها ماهو كفر صراح  ومنها ماهو دون ذلك
يقول الشاطبي رحمه الله:
):البدعة تنقسم إلى رتب متفاوتة منها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن بقوله:
{وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا{  [سورة الأنعام: 136].
وقوله تعالى:
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء { [سورة الأنعام: 139].
وقوله:
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}[سورة المائدة: 103].
وكذلك بدعة المنافقين حين اتخذوا الدين ذريعة بحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح). (الاعتصام للشاطبي 2/37)
وقضية التحليل والتحريم خصوصية لله عز وجل، فمن ادعى التحليل والتحريم فقد شرع ومن شرع فقد أله نفسه. وكما أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق فهو أيضاً صاحب الأمر والسلطان، قال تعالى:{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر}  [سورة الأعراف: 54].

وقال سبحانه:
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لايفلحون }[سورة النحل:116].
فهذه البدع الكفرية و ما شابهها لأصحابها منا العداء والبغض، والبراء  منهم لا يختلف عن البراءة من الكافر الأصلي. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري في الصلح (ج5/301 ح 2697) ومسلم كتاب الأقضية (3/1343 ح 1718) .

وأما مادون ذلك من البدع فبحسب حالها يقول الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام:

(ومن البدع ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف فيها هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر، كبدعة التبتل والصيام قائماً في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.) (الاعتصام للشاطبي 2/37)

فأرباب هذه البدع التي دون الكفر يكون البراء منهم بحسب حالهم في بدعتهم .


















المبحث الخامس:البراءة من المنافقين
 البراءة من المنافقين والحذر منهم تؤخذ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وفي ذلك يقول  ابن القيم رحمه الله:
 (وأما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين: فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة. وأمره أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم) .
(زاد المعاد لابن القيم (3/161) .)
ومن أبرز صفات المنافقين موالاة الكفار، وكراهية دين الله والتخذيل في صف المسلمين لذلك بعد أن بين الله حالهم للمؤمنين كان لابد من مفاصلتهم والبراءة منهم. ونزل في ذلك آيات توضح صور هذه  البراءة من المنافقين ومنها:
(1) الإعراض عنهم والغلظة عليهم: وقد جاء ذلك مقروناً بجهاد الكفار،فالغلظة على المنافق من أنواع الجهاد قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{ [سـورة التوبة: 73].(وهي نفس آية 9من سورة التحريم)      
وسورة التوبة فضحتهم فضحاً عظيماً حتى إنها سميت بـ،" الفاضحة". ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها " .
       (صحيح البخاري كتاب التفسير ، تفسير سورة الحشر (ج 8/629 ح 4882).)
وفي سورة النساء {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً{        [سورة النساء: 81].
 (2) النهي عن الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ {[سورة التوبة: 84].
قال ابن كثير: وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.
(تفسير ابن كثير (4/132).)
(3) لا يقبل لهم عذر في التخلف عن الجهاد، ومن ثم عدم قبولهم فيه مرة أخرى.
 قال تعالى:
{فإن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}
      [سورة  التوبة : 83].
وقال تعالى:  { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {94} سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {95} يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُم ْفإن تَرْضَوْاْ عَنْهُم ْفإن اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}                  [سورة التوبة: 94 – 96].



(4) عدم الاستغفار لهم. قال تعالى:
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}  [سورة التوبة: 80].
وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ {5} سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{  [سـورة المنافقون : 5-6].














المبحث السادس: النهي عن موالاة الكفار و بيان مظاهرها
 لابد للمسلم من تحقيق البراء من الكافرين والحذر من جميع مظاهر موالاتهم  .
و خطورة موالاة الكفار تبرز في أن ضررها يتعدى على المسلمين كافة وهذا أعظم من خطر من يكفر في نفسه فقط ، ثم إن موالاة الكفار يفعلها من يظن سلامة الاعتقاد وهو كاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في ذلك.
 ومعلوم أن المفسدة في هذه الموالاة أعظم من المفسدة في مجرد كفره  بنفسه
و مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات

(أفضل من كتب في مظاهر موالاة الكفار هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأبناؤه وتلاميذه من بعدهم وقد ذكروا كثيرا من هذه الصور  انظر نواقض الإسلام في "مجموعة التوحيد" وانظر رسائل مفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ وغيرها من مؤلفاتهم رحمهم الله وعنهم أخذها كثير من المعاصرين كالشيخ صالح الفوزان في  الولاء والبراء والشيخ محمد بن سعيد القحطاني في الولاء والبراء في الإسلام وغيرهم  )

ومن أبرز مضاهر موالاة الكفار ما يلي:

الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة .
 ويتضح أن هذا الأمر ولاء للكفار : أن الكفار يسرهم ويسعدهم أن يروا من يوافقهم على كفرهم ويجاريهم على مذاهبهم الإلحادية.
ومن المعلوم في معتقد أهل السنة والجماعة: أن حب القلب لله يجب أن يكون  خالصاً. فالذي يحب الكافر لأجل كفره بالله فهو كافر بإجماع الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين.


التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم وقد نهى الله عن ذلك فقال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران: 28].
قال ابن جرير في تفسيرها: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء . أي قد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. (إلا أن تتقوا منهم تقاه) أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل) .
("تفسير الطبري" : (ج3/228).)
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51].
قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم. أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه) .
("تفسير الطبري" : (ج6/277).)
وقال ابن حزم: (صح أن قول الله تعالى : (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) إنما هو على ظاهره: بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) .
  ("المحلى"لابن حزم : (ج13/35).)
وقال ابن تيمية: (أخبر الله في هذه الآية: أن متوليهم هو منهم وقال سبحانه: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) [سورة المائدة:81].
فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً)
(انظر "الإيمان" لابن تيمية: (ص14).)

وقال ابن القيم: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. وهذا عام، خص منهم من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يُقر ولا تُقبل منه الجزية. بل إما الإسلام أو السيف لأنه مرتد بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين؛ لأن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول القرآن فقد انتقل من دين إلى دين خير منه –وإن كانا جميعاً باطلين-، وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان
عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر على ذلك)
 "أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/67،69)


الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله. كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) [سورة النساء: 51]
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب:
 (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [سورة البقرة: 101-102].
فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الإسلام. فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار: من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة كإتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل: كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك.
( انظر "فتاوى ابن تيمية" : (ج28/199-201) .)
 وإن هذه الصورة من صور الموالاة قد وقع فيها معظم المنتسبين إلى الإسلام اليوم، فالإيمان ببعض ما هم عليه أمر واقع في العالم الإسلامي  لا ينكره إلا مكابر أو جاهل،       فها هي الببغوات من أبناء أمتنا وممن ينطقون بألسنتنا قد آمنت بالشيوعية مذهباً تارة، وبالاشتراكية تارة،وبالرأسمالية تارة أخرى، وآمنت بالعلمانية نظاماً ، فأخذت هذه المبادئ الكافرة وطبقتها في بلاد المسلمين ملزمة الناس بعبادتها في الطاعة والانقياد والتنفيذ ونصبت العداء لكل مسلم موحد ينادي في الأمة أن تعود إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وإن من الإيمان ببعض ما هم عليه: مسألة فصل الدين عن الدولة وإنه لا علاقة للإسلام بالسياسة، فهذه أيضاً فرع للقضية السابقة، لم توجد إلا في أوروبا أيام الاضطهاد الكنسي لرجال العلم التجريبي. ولكن أين الإسلام دين العدل والعلم والسياسة من ضلالات رجال الكنيسة حتى يأتي المستغربون فيستوردوا  تلك السموم من أوروبا ليلبسوا الإسلام قناعاً مزيفاً فيقولوا: الإسلام علاقة بين العبد وربه ، والسياسة لها رجالها ولها قضاياها التي لا تمت إلى الدين بصلة .



مودتهم ومحبتهم:
وقد نهى الله عنها بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [سورة المجادلة :22].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادَّين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب) .
("الإيمان" :لابن تيمية (ص 13).)
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [سورة الممتحنة: 1].

الركون إليهم :
قال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [سورة هود: 113]
قال القرطبي: الركون حقيقته: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به وقال قتادة : معنى الآية : لا توادوهم ولا تطيعوهم. وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم .
وهذه الآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر أو معصية. إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة كما قيل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
                           فكل قرين بالمقارن يقتدي
(انظر تفسير القرطبي": (ج9/108))
قال تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [سورة الإسراء: 74-75].
وإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلاة الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟.
"مجموعة التوحيد" : (ص117)

مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين: قال تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) [سورة القلم: 9].
والمداهنة والمجاملة والمداراة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم. حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة – فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم متعصبون ! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في مثل هؤلاء:
 "لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبَّ تبعتموهم".قلنا : يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال : "فمن" .
(صحيح البخاري": (ج13/300 ح7320) كتاب الاعتصام، و"صحيح مسلم": (ج4/2054 ح2669). واللفظ للبخاري)

إن المداهنة والمجاملة قد تبدأ بأمر صغير ثم تكبر وتنمو حتى تؤدي –والعياذ بالله- إلى الخروج من الملة. وهذه إحدى مزالق الشيطان فليحذر المسلم منها على نفسه، وليعلم أنه هو الأعز وهو الأقوى إذا امتثل منهج الله وتقيد بشرعه ومقتضيات عقيدته.
ومن الأمور الواضحة في تاريخ المسلمين: أن أكبر العوامل في انتصارهم الإيمان بالله ورسوله  والاعتزاز بالإسلام. يصدّق ذلك ويؤيده قول الفاروق –رضي الله عنه- : "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".
 (أخرجه الحاكم في "المستدرك" : (ج1/62) كتاب الإيمان. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه).
وقال تعالى :{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}


اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين: قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].
نزلت هذه الآية في أناس من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجلاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار فأنزل الله هذه الآية تنهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم.
("أسباب النـزول" للواحدي: (ص 68).)
وبطانة الرجل: خاصته، تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم. وقد بيّن الله العلة في النهي عن مباطنتهم فقال: (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد، ثم إنهم يودون ما يشق عليكم من الضر والهلاك.
والعداوة التي ظهرت منهم: شتم المسلمين والوقيعة فيهم، وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المسلمين.
(انظر "تفسير البغوي": (1/409)، و"تفسير ابن كثير": (2/89).)
وفي سنن أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم : "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" .
("سنن أبي داود": (ج5/168، ح4833) كتاب الأدب، وفي "المسند" : (ج16/178، ح8398)، طبعة شاكر، والترمذي: (ج7/111، ح2379) في "الزهد"، وقال هذا : حديث حسن غريب .)



طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به من الشر .
قال تعالى ناهياً عن ذلك: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: 28]. وقال : (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) [سورة آل عمران: 149] وقال: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [سورة الأنعام: 121].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك، كما قال تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [سورة التوبة: 31]).
("تفسير ابن كثير" : (ج3/322).)
مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله:
قال تعالى في النهي عن ذلك: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً)               [سورة النساء: 140].
قال ابن جرير: (قوله (إنكم إذاً مثلهم) أي إنكم إذاً جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثلهم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.
وفي الآية دلالة واضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من الكفرة والمبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم) .
("تفسير الطبري" : (ج5/330).)
وفي الحديث: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم" .
(صحيح البخاري": (ج8/125، ح4419) كتاب المغازي، و"صحيح مسلم": (ج4/2185، ح2980) كتاب الزهد.)



توليتهم أمراً من أمور المسلمين العامة :كالإمارة ونحوها،
والتولي قرين الولاية، لذلك فتوليتهم نوع من توليهم. وقد حكم الله أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. والولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً.
والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً. والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتّاب – مثلاً- ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان ؛لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال.
فهذا الملك ‘‘الصالح‘‘ كان في دولته نصراني يسمى: محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان   ولم يكن في المباشرين أمكن منه. وكان قذى في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين، وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها.وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الإدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عن الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام.
 وحدث أن اجتمع في مجلس ‘‘الصالح‘‘ أكابر الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء  فتحدث عنده أحد العلماء فذكر مخازي النصارى وبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق. وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً. والله تعالى يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) [سورة المائدة: 73].
وأول أمانتهم وعقد دينهم: ‘‘بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد‘‘ فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له:
كيف يدري الحساب من جعل الوا
                           حد رب الورى تعالى ثلاثــة
ثم قال هذا العالم : كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟ .
وانصرف القوم واتفق أن كبت النصراني ، وظهرت خيانته فأريق دمه وكفي المسلمون شره.
  (انظر أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/242-244) بتصرف )

الرضى بأعمالهم والتشبه بهم، والتزيي بزيهم.ففي الحديث "من تشبه بقوم فهو منهم"
(أخرجه أبو داود وصححه حديث رقم4031 وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6149)
والمشابهة في الظاهر تدل على المشابهة في الباطن ؛فإذا تشبه المسلم بالكافر فهذا دليل ظاهر على تعلق قلبه بالكفار ،وهذا  من الأمور الشائعة في زمننا هذا والعياذ بالله
وفي فتوى لشيخنا  محمد العثيمين رحمه الله حول مقياس التشبه بالكفار:
سئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: عن مقياس التشبه بالكفار؟
فأجاب بقوله: مقياس التشبه أن يفعل المتشبِه ما يختص به المتشبَه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئاً من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبهاً، فلا يكون حراماً من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرماً من جهة أخرى. وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة. وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال ص272 ج10 "وقد كره بعض السلف ليس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال : كان يلبس هاهنا". أ.هـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، حين سئل ما يلبس المحرم، فقال: "لا يلبس القمص، ولا السراويل، ولا البرانس" الحديث لكان أولى.
وفي الفتح أيضاً ص307 جـ1: وإن قلنا : النهي عنها (أي عن المياثر الأرجوان) من أجل التشبه بالأعجام فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. والله أعلم. أ.هـ
(فتوى رقم 406 مجموع فتاوى ابن عثيمين)


معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم:
ويضرب القرآن لذلك مثالين هما : امرأة لوط التي كانت ردءً لقومها، حيث كانت على طريقتهم، راضية بأفعالهم القبيحة، تدل قومها على ضيوف لوط. وكذلك فعل امرأة نوح.
("تفسير ابن كثير": (ج6/210).)






الثناء عليهم ونشر فضائلهم.
وهذه الصورة ظهرت واضحة في العصور الأخيرة فقد رأينا ‘‘أفراخ المستشرقين‘‘ –مثلاً- ينشرون فضائلهم وأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد و..و.. إلخ كذلك جاء من ينشر ‘‘فضائل‘‘ الغرب أو الشرق مضفياً عليها ألقاب التقدم والحضارة والرقي، وواصماً الإسلام والمنتسبين إليه بالرجعية والجمود والتأخر عن مسايرة الركب الحضاري والأمم المتقدمة.

تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم:
مثل قول: السادة الأجلاء أوالحكماء الفضلاء ونحو ذلك .
فإن التعظيم واللقب الرفيع رمز للعزة والتقدير وهما مقصورتان على المؤمن. أما الكافر فله الإهانة والذلة.

15 - من ترك دار الإسلام إلى دار الحرب حباً للكافرين.وسكن معهم      في ديارهم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله".
(أخرجه أبو داود: (ج3/224، ح2787)) كتاب الجهاد، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر "صحيح الجامع الصغير": (ج6/279، ح6062).)
وقال : "لاتساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا".
(أخرجه الحاكم في "المستدرك": (ج2/141)، وقال صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.)
سئل الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: عن رجل أسلم وأحب الإسلام وأهله ويبغض الشرك وأهله، وبقي في بلد يَكْرَهُ أهلها الإسلام ويحاربونه ويقاتلون المسلمين، ولكنه يشق عليه ترك الوطن فلم يهاجر، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: هذا الرجل يحرم عليه بقاؤه في هذا البلد ويجب عليه أن يهاجر فإن لم يفعل فليرتقب قول الله تعالى: ]إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم  قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً[) سورة النساء، الآيتان "97-98".
فالواجب على هذا إذا كان قادراً على الهجرة أن يهاجر إلى بلد الإسلام، وحينئذ سوف ينسلخ من قلبه محبة البلد التي هاجر منها وسوف يرغب في بلاد الإسلام، أما كونه لا يستطيع مفارقة بلد يحارب الإسلام وأهله لمجرد أنها وطنه الأول فهذا حرام ولا يجوز له البقاء فيها.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 392)
16 -  التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، ، والتجسس من أجلهم،
فإن نقل عورات المسلمين وأسرارهم إلى الكفار دال على موالاتهم وعداوة المؤمنين، بل قد تصل موالاتهم إلى القتال في صف الكافرين ضد المؤمنين، والعياذ بالله.

17- من انخرط في أحزابهم الضالة وبذل لها الولاء والحب والنصرة
كالعلمانية و الإلحادية والشيوعية والاشتراكية والقومية والماسونية وغيرها من الأحزاب المنحرفة المأخوذة عن الكفار.
 إن موقف المسلم تجاه هذه الصورمن الولاء والبراء هو الصورة الفعليه للتطبيق الواقعي للعقيدة وهو مفهوم ضخم في شعور المسلم بمقدار ضخامة هذه العقيدة وعظمتها وإذا عرف المسلم  أن المؤمين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وأن الله مولى المؤمنين، وأن الكافرين لامولى لهم، إذا عرف ذلك استطاع ان يحدد موقفه من كل صورة من الصور فيعرف من يوالي ومن يعادي وماذا يريد الإسلام منه , وماذا يراد للإسلام من أعداءه.
- العذر الذي يقبل في موالاة الكفار
 قد يعتذر الموالون للكفار بأي صورة من الصور بأعذار كثيرة ، والله سبحانه لم يقبل إلا عذرا واحدا في إظهار الموالاة للكفار وهو: الإكراه .
 قال تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن   بالإيمان }.
ولكن الإكراه يكون  في الإظهار وليس له تعلق  بالرضى القلبي والميل الباطني فهو غير مأذون فيه على أي حال.
قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم* ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) [سورة النحل: 106-107].
وقال تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران:28].
قال البغوي: نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا من خوف القتل وسلامة النيّة قال تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم
("تفسير البغوي" : (ج1/336))

وقال ابن القيم : معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم .
("بدائع الفوائد": (ج3/69).)
وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى:
(إلا أن تتقوا منهم تقاة) [سورة آل عمران:28]:أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل .
"تفسير الطبري" : (ج3/228).
وقال الخازن في تفسيره:
لو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر حتى قتل كان أفضل لفعل ياسر وسمية وصبر بلال على العذاب.
("تفسير الخازن" : ((ج4/117).)
لقد كان بلال رضي الله عنه تُفعل به الأفاعيل حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحدٌ. أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها.
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما قال مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع ،فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.
(انظر "تفسير ابن كثير": (ج4/525).)



-  الفرق بين الموالاة والمعاملة بالحسنى :
هناك فرق بين الموالاة والمعاملة بالحسنى والأصل في ذلك قوله تعالى
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم  أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }
وأرجح الأقوال في تفسيره العموم وهوالذي رجحه ابن جرير رحمه الله في تفسيره وهو أنه لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم لأن الله عز وجل عمَ بقوله { الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم} جميع من كان ذلك صفته فلم يخص بعضاً دون بعض. ويبين العموم خبر أسماء رضي الله عنها مع أمها.
(انظر تفسير ابن جرير الطبري تفسير سورة الممتحنة آية8)

روى البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت – قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: [نعم صلي أمك]
(أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الهدية للمشركين حديث رقم2505وأخرجه مسلم كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين حديث رقم 1745)
و قال تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [سورة لقمان: 14 –15].
وقال تعالى:
{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [سورة النساء: 1].
وفي الحديث " لا يدخل الجنة قاطع رحم "
(أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إثم القاطع حديث رقم 5661 وأخرجه مسلم كتاب البر والصلة باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها حديث رقم 4764)
وصلة الرحم واجبة، وإن كانت لكافر، فله دينه وللواصل دينه
 فيتضح لنا مما سلف: أن النهي عن موالاة الكفار لا يعني النهي عن النفقة على الوالدين الكافرين ولا يعني النهي عن صلة رحم الأقارب الكفار.وهذا من رحمة الإسلام وكمال تعاليمه.
ثم إن سماحة الإسلام تتجلى أيضاً  في معاملة الأسرى الكفار قال تعالى {ويطعون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}ولم يكن الأسرى في وقت نزول القرآن إلا من الكفار.
وتتجلى سماحة الإسلام أيضا في معاملة غير المقاتلين من الكفار كالشيوخ والأطفال والنساء في الحرب كما هو معلوم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده.










المبحث السابع:ضوابط في الولاء والبراء
هناك ضوابط تعين على فهم الولاء والبراء ،وتبين متى يكون كفرا ، وتوضح الأمور الجائزة التي ليست داخلة في موالاة الكافرين فمن هذه الضوابط:
الضابط الأول : إقرار الكفار الأصليين أن يبقوا على كفرهم ...............
الضابط الثاني  : إباحة معاقدة ومعاهدة الكفار .........................
الضابط الثالث : عدم نصرة المسلمين على الكفار لعهد أو لعجز ...........
الضابط الرابع : إباحة الحلف مع الكفار و الدخول تحت حمايتهم .........
الضابط الخامس : الحرص على حقن دماء الكفار رجاء هدايتهم .............
 الضابط السادس : للمسلم أن يجير كافراً فيكون معصوم الدم ..........
الضابط السابع: تحريم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين .....
 الضابط الثامن : وجوب العدل مع الكفار ..........................
 الضابط التاسع: الإحسان إلى بعض الكفار لقرابتهم .................
الضابط العاشر : الإحسان إلى عموم الكفار في مواطن ..............

وفيما يلي تفصيل هذه الضوابط العشرة وغيرها:

- الضابط الأول: إقرار الكفار الأصليين أن يبقوا على كفرهم
مع أن الله بعث محمداً e لمحو الشرك والأصنام و الكفر من الأرض ليكون الدين كله لله،
كما قال e  فيما روى مسلم : "أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ". ومع ذلك فالإسلام أقر ترك الكفار الأصليين من أهل الذمة و المعاهدين و المستأمنين أن يبقوا على كفرهم فلم يجبر أحداً منهم على الدخول في الإسلام قال الله تعالى : ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[ [البقرة:256] ، وليس ذلك مما ينافي عقيدة الولاء والبراء ، بل إنه كفل حمايتهم والقيام بحقوقهم وعدم ظلمهم إذا كانوا تحت حكم شريعتنا ، كما روى مسلم عن عُرْوَةَ قَالَ : مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ t عَلَى أُنَـاسٍ مِنْ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُـوا فِي الشَّمْسِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا : حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ هِشَامٌ : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا" ، قَالَ : وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا". وذكره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة:1/34) تحت :"فصل : ولا يحل تكليفهم مالا يقدرون عليه ، ولا تعذيبهم على أدائها ، ولا حبسهم وضربهم"أ.هـ.

الضابط الثاني  : : إباحة معاقدة ومعاهدة الكفار
الإسلام أباح معاقدة ومعاهدة الكفار ولو على شروط فيها حيف على المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين كدفع ضرر عنهم خاصة عند الضعف والعجز ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، إذا وفّوا بعهدهم وذمتهم. قال الله تعالى : ]فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[ [التوبة:4] ، ومما يبين معنى الآية السابقة :
(1) ما روى البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، ورواه ابن حبان وَبَوَّب عَلِيْه {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ في قِْصةِ الحُدَيْبِيَةِ فِي حَدِيثٍ طَويْلٍ وفِيْه : "فَدَعَا النَّبِيُّ e الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ e : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَكِـنْ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ : "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي: اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْـنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ e : "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" ، فَقَالَ : سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِـلِ فَكَتَبَ. فَقَالَ : سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا. وفي رواية للبخاري في{بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ} :" فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ e يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ e أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا". أقول : فانظر كيف عجز كبار الصحابة حاشا أبي بكر  eعن تحمل مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ tكما في رواية للشيخين : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ e لَرَدَدْتُهُ". رواه البخاري – وهو في مسلم – في باب {إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ وَقَوْلِ اللَّهِ ]الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ[}.
- قال ابن قدامة (المغني:13/154)  : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى : ]براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين[[التوبة:1] ، وقال سبحانه ]وإن جنحوا للسلم فاجنح لها[[الأنفال:61] ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي e صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعفٌ فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر لمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية ، والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ. قال ابن القيم في ذكر أحكام صلح الحديبية (زاد المعاد:3/306) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.
 (2) روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ t قَالَ : مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ ، قَالُـوا : إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا ؟ فَقُلْنَا : مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ e  فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". قال ابن القيم (زاد المعاد:3/125) : "وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين من غير رضاه أمضاه لهم كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه e ، فأمضى لهم ذلك وقال لهما : [انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم]"أ.هـ.
(3) روى أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم ، وبوّب عليه ابن حبان : {ذكر الإخبار عن نفي جواز حبس الإمام أهل العهد وأصحاب بردهم في دار الإسلام} ، عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ : بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ. قَالَ : فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ e فَأَسْلَمْتُ" : قـال ابن القيم (زاد المعاد:3/138) : "وكان هديه أيضاً ألا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه فلا يمنعه من اللحاق بقومه ، بل يرده إليهم كما قال أبو رافع : بعثتني قريش إلى النبى e ، فلما أتيته وقع في قلبي الإسلام فقلت : يا رسول الله! لا أرجع إليهم فقال : (إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ، ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع) ، قال أبو داود : وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسول الله e أن يرد إليهم من جاء منهم وإن كان مسلماً"أ.هـ.
    ولذا فعلى المسلم أن لا يندفع لمجـرد العاطفه ليعترض على المعاهدات التي تكون بين ولاة الأمور والكفار دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول e من أهل العلم ، فإنه لا مجال للاستحسانات والتخرصات والأهواء في ما يتعلق بمصالح الأمة الكبرى ، فهذا عمرُ t يعترض على الصلح  بالدنية ، وعلي t يمتنع عن محو البسملة والرسالة استعظاماً لذلك ، وهؤلاء الصحابة t  يمتنعون عن حلق رؤسهم من شدة غضبهم ، والنبي e صابر على أمر الله U ، صابر على صدّ أعدائه عن البيت الحرام وحميتهم الجاهلية ، وصابر على توقف أصحابه t في الاستجابة لأمره e ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة النبوية:8/409) : "ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ، ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها ، لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرعِ على الهوى. فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء ، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع ... والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس ، وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علماً وإيماناً وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار"أ.هـ. ويقول ابن القيم ضمن فوائد أحكام صلح الحديبية(زاد المعاد:3/303) : "فكـل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له ، أجيب إلى ذلك كائناً من كان ، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه ، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس ، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق ، وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالاً بعده"أ.هـ.
الضابط الثالث :   عدم نصرة المسلمين على الكفار لعهد أو لعجز
 أن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار وأوجب نصرة المسلمين بعضهم لبعض وجعلها من ولايتهم يمنع من نصرة المسلمين على الكفار إذا كان ثم عهد بين المسلمين وبين هؤلاء الكفار ، أو كان المسلمون عاجزين عن نصرة إخوانهم ولا يعد ذلك مما يناقض عقيدة الولاء والبراء :
(1) ترك النصرة لأجل العهد : قال U ]وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[ [الأنفال:72] : قال الطبري في تفسير الآية(10/38) : "إلا أن يستنصرونكم ]عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ[ يعني : عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه"أ.هـ  وقال ابن كثير(تفسير القرآن العظيم:2/315) : "فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين ، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق ، أي مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم ، وهذا مروي عن ابن عباس y"أ.هـ. وقد ترك حذيفة وأبوه y نصرة النبي e في بدر بسبب العهد والميثاق الذي أخذه منهما كفّار قريش أن لا يقاتلا مع النبي e فأقرهما e كما تقـدم في رواية مسلم حين قال : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".
(2) ترك النصرة لأجل الضعف : وقد تـرك النبي e نصرة كثير من المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم قدرته على نصرتهم ؛ وقال لهم لما استنصروه كما روى البخاري : "وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
(3) ترك النصرة لكون القتال غير ديني : لقوله تعالى : ]وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [،  تقدم قول ابن كثير قريباً(تفسير القرآن العظيم:2/315) : "قوله ]وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ[ الآية ، يقول تعالى : وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم"أ.هـ. فقيده بالقتال الديني. وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (تيسير الكريم الرحمن:440): "]وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ[ أي : لأجل قتال من قاتلهم [لأجل دينهم] ]فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ[ ، والقتال معهم. وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم"أ.هـ.

الضابط الرابع : إباحة الحلف مع الكفار و الدخول تحت حمايتهم
أن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار لا يمنع عقد الأحلاف مع الكفار أو الدخول تحت حمايتهم إذا كان ذلك في مصلحة الإسلام أو المسلمين أو لدحر عدو ضرره أكبر في حال ضعف المسلمين وعجزهم ؛ قال تعالى : ]لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً[ [آل عمران:28] . قال أبو بكر بن العربي (أحكام القرآن:1/268) عند قوله تعالى ]إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً[ : ".. إلا أن تخافوا منهم ، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووالوهم وقولوا ما يصرف عنكم من شرِّهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقاد ؛ بيَّن ذلك قولُهُ تعالى]إِلاَّ مِنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ[ على ما يأتي بيانه إن شاء الله"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(الصارم المسلول:1/226) : "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف ، أو في وقت هو فيه مستضعف ، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"أ.هـ. ويدل على ما ذكرنا :
(1) ما تواتر من أذن النبي e للصحابة في الهجرة للحبشة وكان ملكها كافراً لكنه كان عادلاً ، ففروا من حكم كفار قريش إلى حكم كفار النصارى : فقد روى محمد بن إسحاق (السيرة:194) بإسناده قال : فقال لهم رسول الله e : (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه). فخرجنا إليها أرسالاً ، حتى اجتمعنا ونزلنا بخيـر دار إلى خير جار ؛ أمنا على ديننا ، ولم نخش منه ظلمًا".  وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : "وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار" ـ حتّى قال ـ : "وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى ، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم"أ.هـ. وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (الفتاوى السعدية:94) : "بلاد الكفر نوعان : بلاد حرب واضطهاد , وبلاد عهد وهدنة وأمن , ويدل على هذا أن النبي e أذن لأصحابه أن يهاجروا من مكة حيث كانت بلاد كفر واضطهاد وأذية وفتنة للمؤمنين إلى بلاد الحبشة , وهي بلاد كفر , ولكنها بلاد أمن واطمئنان , وهي أخف بكثير من بلاد الفتنة , والشر القليل أهون من الشر الكثير , ولهذا تمكن الصحابة y من إظهار دينهم فيها"أ.هـ.
(2) دخول النبي e في جوار وحماية بعض الكفار :
أ- حماية عمه أبي طـالب وكفار بني هاشم لـه : روى البخاري أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ t قَالَ لِلنَّبِيِّ e مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ ؟ فَإِنَّهُ كَـانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ ، قَالَ : هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ" ، وروى أحمد وابن ماجه وصحّحه ابن حبان والحاكم عَنْ ابْنِ مسْعُودٍ t قَالَ :"فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ e فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ"أ.هـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهـل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى ]وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً[[آل عمران:75]"أ.هـ. قال الحافظ في شرح الباب(فتح الباري:7/233) : "فلما هلك أبو طالب نالت قريشٌ من رسول الله e من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابًا ، فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال : فدخل رسول الله e بيته يقول : ما نالتني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"أ.هـ.
ب- حماية المطعم بن عدي : روي البخاري عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ t أن النبي e قال في أسارى بـدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:2/314) وذكر الحديث: "يكافئ المطعم بإجارته له بمكة". وقال الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109): "إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه ، سواء كان المستعان به يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو غير ذلك ، إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك.  وقد وقع من النبي e هذا ، وهذا في مكة استعان بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف"أ.هـ.
(3)  دخول أبي بكر t في جوار وحماية رجل كافر : فقد روى البخاري في باب {جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ e وَعَقْدِهِ} عن عائشة t أن ابْنُ الدَّغِنَةَ قال لقريش  : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ".
(4) ودخل في حلف النبي e بعض المشركين كما ذكر ابن إسحاق(سيرة ابن هشام:4/46) عن المسور ومروان وغيرهم من علمائنا قالوا : "فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله e وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله e وشرط لهم : أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله e وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول e وعهده" قال الشيخ رشيد رضا(تفسير المنار:3/420) : "يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم ، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي ، أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء[ [المائدة:51] ، يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم ، وإن كان الحلاف أو الاتفاق لمصلحتهم ، وفاتهم أن النبي e كان محالفاً لخزاعة وهم على شركهم"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(فتاوى ومقالات:6/186) : "أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد ، أو يخشى عدوانه فهذا لا بأس به ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي e في قتاله لكفار قريش يوم الفتح"أ.هـ.
(5) روى أبو داود فِي {بَابٍ فِي صُلْحِ الْعَدُوِّ} ، وابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ t قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ : غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ". وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (فتاوى ومقالات:6/186) : "وصح عنه e أنه قال : (إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم) ، فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا. والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة ، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح ، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم ، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم."أ.هـ.
(6) موادعة النبي e يهود المدينة لما هاجر على أن عليهم النصرة والنفقة إذا حارب ، وأنّ لهم النصر والأسوة غير مظلومين كما ذكر أصحاب السيرة ، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم.
 الضابط الخامس : الحرص على حقن دماء الكفار رجاء هدايتهم
الشريعة التي جاءت بالبراءة من الكفار ووجوب بغضهم جاءت بالحرص على حقن دمائهم ما أمكن رجاء هدايتهم ، وتأليف قلوبهم بإكرامهم ببعض الجاه والشرف أو بإعطائهم من أموال المسلمين وإيثارهم بها :
(1) حقن الدماء : فقد روى مسلم عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال في فَتْحِ مَكَةَ: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُـوَ آمِنٌ". قال ابن القيم مبيناً المصلحة في مسالمة الكفار بالشروط(أحكام أهل الذمة:117) : "وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه ، أو بلغتهم أخباره ، فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم ، وهذا أحب إلى الله من قتلهم"أ.هـ.
(2) إعطاء المال للتأليف : روى مسلم أنَّ النبي e أَعْطَى يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنْ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً. قَالَ صَفْوَان t : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ e مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ".  قال شيـخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/217): " والمؤلفة قلوبهم نوعان : كافر ومسلم ، فالكافر إما أن تُرْجَى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرّته إذا لم يندفع إلا بذلك"أ.هـ.
(3) إعطاء المال لدفع الشر : روى البزار والطبراني قول النبي e للأنصَارِ فِي الخَنْدَقِ : "إِنِّيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ الحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوْهُ تَمْرَ المَدِيْنَةِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا حَتَّى تَنْظُرُوا فِيْ أَمْرِكُمْ بَعْدُ" ، قال الهيثمي(مجمع الزوائد:6/191) :"فيهما محمد بن عمرو ، وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات"أ.هـ. قال القرطبي(الجامع لأحكام القرآن:8/41) : "ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو"أ.هـ فذكر القصة. وذكر شيـخ الإسلام ابن تيمية من اعترض على النبي e في قسمة حنين بإعطاء الطلقاء وترك الأنصار فقال(مجموع الفتاوى:28/579) : "وهم قوم لهم عبادة وورع وزهد لكن بغير علم ، فاقتضى ذلك عنـدهم أن العطاء لا يكون إلا لذوي الحاجات ، وأن إعطاء السادة المطاعين الأغنياء لا يصلح لغير الله بزعمهم ، وهذا من جهلهم فان العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله ، فكلما كان لله أطوع ، ولدين الله أنفع ، كان العطاء فيه أولى ، وعطاء احتاج إليه في إقامة الدين وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك ، وإن كان الثاني أحوج"أ.هـ.
الضابط السادس: للمسلم أن يجير كافراً فيكون معصوم الدم
الإسلام يجيز للموحد المسلم أن يجير عدواً من أعداء الله الكفار فيكون معصوم الدم لا يحل لأي مسلم كائناً من كان أن يتعرض لهذا الكافر و إلا كان متعرضاً لأعظم الوعيد ولم يكن ذلك مناقضاً لعقيدة البراءة من الكافرين وبغضهم ، قال U ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَـارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَـعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ[[التوبة:6] :
(1) روى الشيخان عَنْ عَلِيٍّ t قَالَ النَّبِيُّ e : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وذكره البخاري تحت باب {ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ}. قال النووي في (شرح مسلم:9/146) : "المراد بالذمة هنا الأمان ، معناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح ، فإذا أمنه به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له مادام في أمان المسلم ، وللأمان شروط معروفة"أ.هـ. وذكر فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في خطبة على أثر تفجير الخبر في السعودية بخط يده : الحديث ، وأن سفك دم المعاهـد من كبائر الذنوب ، ثم قال : "ومعنى الحديث : أن الإنسان المسلم إذا أمّنَ إنساناً وجعله في عهده فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً ، من أخفرها وغدر بهذا الـذي أعطي الأمان من مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله ملائكته ، وإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل"أ.هـ.
(2) وروى البخاري في باب {أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ} عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ y قَالَتْ : ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ : أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلَـيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ ـ فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْـرَةَ ـ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجـوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمـن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ

الضابط السابع:  تحريم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين
الإسلام حرّم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين إذا وفَّوا بذمتهم وعهدهم وأمانهم ، وجعل المسلم الذي يفعل ذلك معرضاً لأعظم الوعيد ، ولم يكن ذلك مناقضاً لعقيدة البراءة من الكافرين وبغضهم :
(1)  فقد روى البخاري في باب {إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ} ، وباب {إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ} عَنْ عبْدِ اللهِ بْنِ عمْرٍ e عَنْ النَّبِيُّ e قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري:12/271) : "كذا ترجم بالذمي ، وأورد الخبر في المعاهد ، وترجم في الجزية بلفظ (من قتل معاهدًا) كما هو ظاهر الخبر ، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية ، أو هدنة من سلطان ، أو أمان من مسلم"أ.هـ.
(2) وروى أبو داود في باب {فِي الْوَفَاءِ لِلْمُعَاهِدِ وَحُرْمَةِ ذِمَّتِهِ} , والنسائي في باب {تَعْظِيمُ قَتْلِ الْمُعَاهِدِ} ـ واللفظ له ـ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :"مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا". قال ابن القيم (الجواب الكافي:1/104) : "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان معاهداً في عهده وأمانه ، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن"أ.هـ.
(3) وروى أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان عَنْ عَمْرُو بْنِ الْحَمِقِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُـولُ كَـافِراً". قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:1/91) : "ومن المعلوم أن من أظهر لكافر أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر ، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً" ، فذكر الحديث.
(4) وروى أبو داود في باب {فِي الْعَدُوِّ يُؤْتَى عَلَى غِرَّةٍ} ، وصححه الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ ، لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ". قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وقال ابن عبد البر الاستذكار(14/80) : "والغدر أن يؤَمِّنَ ثم يقتل ، وهذا حرام بإجماع"أ.هـ.



الضابط الثامن : وجوب العدل مع الكفار
أوجب الإسلام العدل حتى مع الكفار ممن قاتلنا وعادانا ، ولو اقتضى ذلك أن يحكم للكافر على المسلم ، فإن ذلك لا ينافي الولاء للمسلم والبراءة من الكافر ، قال تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[[المائدة:8] :
(1) روى البخاري عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ t قَالَ :"كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُـودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ e ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ e : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ لاَ. قَالَ : فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ : احْلِفْ. قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ]إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً[[آل عمران:77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ" ، بوب عليه أبو داود {بَاب إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذِمِّيًّا أَيَحْلِفُ}. قال البغوي(شرح السنة:10/102): "فيه دليل على أن الكافر يحلف في الخصومات ، كما يحلف المسلم"أ.هـ.
(2) وروى مالك في الموطأ عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ t اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ". قال ابن عبد البر(الاستذكار:22/20) : "وفي هذا الحديث من الفقه أن المسلم والكافر والذمي في الحكم بينهما والقضاء كالمسلمين سواء"أ.هـ.
(3) وفي مسند أحمد وسنن الدارقطني والبيهقي عَنْ جَابِرِ t  قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لَمَّا بَعَثَهُ e  لِيَهُودِ خَيْبَرَ فَخَرَصَ عَلَيْهمْ : يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ ؛ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ U وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ". قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى:6/494): "ويجب على المسلم أن يعامل الكفار إذا لم يكونوا حربًا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة ، وعدم الغش والخيانة والكذب ، وإذا جرى بينه وبينهم نزاع جادلهم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة ، عملاً بقوله تعالى : ]وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ["أ.هـ.


الضابط التاسع: الإحسان إلى بعض الكفار لقرابتهم
أن الإسلام أمر بالإحسان إلى بعض الكفار من أهل الذمة لقرابتهم أو رحمهم ، وصيانة أعراضهم وأموالهم ، والدفاع عنهم :
(1) فقد روى مسلم ، والبيهقي في باب {الوَصَاةُ بأَهْلِ الذِّمَةِ} عن أَبِي ذَرٍّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :"إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا". قال ابن القيم(تحفة المودود:78) : "أن النبي أوصى بالقبط خيراً ، وقال : إن لهم ذمة ورحماً ؛ فإن سرّيتي الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام كانتا منهم ، وهمـا هاجر ومارية ، فأما هاجر : فهي أم إسماعيل أبي العرب ، فهذا الرحم ، وأما الذمة : فما حصل من تسري النبي عليه السلام بمارية وإيلادها إبراهيم ، وذلك ذمام يجب على المسلمين رعايته ما لم تضيعه القبط"أ.هـ.
(2) وروى البخاري في باب {يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ} : قَالَ عُمَرُ t : أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ e أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:1/312) : "وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله ... وهذا امتثال لقول النبي e  (ألا من ظلم معاهداً ، أو انتقصه من حقه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود ، فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية"أ.هـ.


الضابط العاشر: الإحسان إلى عموم الكفار في مواطن
أن الإسلام الذي أمر بالبراءة من الكفار وعدم توليهم ولو كانوا من أقرب الناس كما قال تعالى ]لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[ [المجادلة:22] ، أمر بإسداء المعروف والإحسان إلى الكفار في مواطن ولا تعارض في ذلك عند من رزق الفهم ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي (القواعد الحسان : القاعدة الثانية عشرة:ص24) : "ومن ذلك : النهي في كثيرٍ من الآيات عن موالاة الكافرين وعن مودتهم والاتصال بهم ، وفي بعضها : الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم ومصاحبته بالمعروف كالوالدين ونحوهم ، فهذه الآيات العامات من الطرفين قد وضحها الله غاية التوضيح ... فالنهي واقع على التـولي والمحبة لأجل الدين ، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان"أ.هـ. ولذلك جاء الترخيص بذلك من وجهين :
(1) أمر بمصاحبة ذوي القربى منهم بالمعروف وصلة رحمهم والهدية لهم مما يدل على أن البراءة منهم تجتمع مع الإحسان والبر والصلة ؛ قال الله تعالى : ]وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً[ [لقمان:15] ، وروى الشيخان عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ y قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ" ، ذكره البخـاري في باب : {الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ]لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[}: قال القرطبي (الجامع لأحكام القرآن:14/65) : "قوله تعالى : ]وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً[ ".. الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق"أ.هـ. وقال القاضي عياض في شرح الحديث(إكمال المعلم:3/523): "فيه جواز صلة المشرك ذي القرابة والحرمة والذمام"أ.هـ.
(2) وقال عن عموم الكفار ]لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [الممتحنة:8] ، روى الشيخان عَنْ ابْنِ عُمَرَ t أنَّ رَسُولُ اللَّهِ e أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ t بحُلَّةٍ سِيَرَاءَ : "فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ".  ذكره البخاري كذلك في باب المذكور آنفاً باب : {الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ} ، ولذا عقد ابن القيم (أحكام أهل الذمة:1/301) فصلاً في حكم أوقاف أهل الذمة ووقف المسلم عليهم ، مبينًا أن الصدقة جائزة على مساكين أهل الذمة والوقف ، فذكر الآية ثم قال : "فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء ، وقطع المودة بينهم وبينهم ، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة ، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها ، وأنه لم ينه عن ذلك ، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء ، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة"أ.هـ.(للمزيد حول هذه الضوابط وغيرها انظركتاب الولاء والبراء في الإسلام للشيخ صالح الفوزان و كتاب:حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين للشيخ عصام السناني  بإشراف الشيخ صالح الفوزان)










المبحث الثامن :أحكام التعامل مع الكفار

1- البيع والشراء  ونحوهما:
ثبت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعا له بالمدينة عند يهودي واشترى منه شعيرا لأهله.
(أخرجه البخاري في كتاب البيوع في باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة حديث رقم1984)

و القاعدة الفقهية هي :"الأصل في المعاملات الحل"  وبناء على هذه القاعدة الفقهية         وبناء على النصوص الشرعية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الراشدين وأئمة المسلمين فإن التعامل مع الكفار في البيع والشراء ونحوهما لا يدخل في مسمى الموالاة.

سئل ابن تيمية رحمه الله عن معاملة التتار فقال : يجوز فيها مايجوز في معاملة أمثالهم ويحرم فيها مايحرم في معاملة امثالهم فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك ,كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك مايسعه لإمثالهم .
فأما أن باعهم أو باع غيرهم مايعينهم به  على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لايجوز قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم       والعدوان }
وعن بيع مايعينهم على المحرمات قال رحمه الله :
"فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم مايستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك , أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع اعانة على إقامة عيد محرم وهو مبني على أصل الموالاة وهو أنه لايجوز ان يبيع الكفار  عنبا او عصيرا يتخذونه خمر ".
(مجموع  فتاوى ابن تيمية 29/275-277)

والحاصل إن البيع على الكفار جائز إلا إن كان بيعاُ لما يعينهم على المحرمات وأما الشراء فجائز إلا إذا كان لأموال يعرف حرمتها بعينها كاموال يعرف انهم غصبوها من معصوم ، وأما إن علم في أموالهم شيئاً محرما لا تعرف عينه فهذا لاتحرم معاملتهم فيه .

2-  الوقف عليهم  او وقفهم على المسلمين.
 قال ابن القيم : أما ما وقفوه فينظر فيه فإن وقفوه على معين او جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقه على المساكين والفقراء , واصلاح الطرق والمصالح العامه وعلى اولادهم وأنسالهم واعقابهم  فهذا الوقف صحيح حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات لكن اذا شرط في الاستحقاق البقاء على الكفر فلا يصح هذا الشرط واما وقف المسلم عليهم  فأنه يصح منه ماوافق حكم الله ورسوله فيجوز انه يقف على معين منهم او أقربائه وبني فلان ونحوهم ولايكون الكفر موجبا ولا شرطا في الإستحقاق ولا مانعا منه واما الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم فلا يصح من كافر او مسلم ,فإن في ذلك أعظم الأعانه  لهم على الكفر .
( مختصر من كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/601 وما بعدها)
 




3- حكم النكاح منهم
في أول الإسلام كانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما حتى صلح الحديبية وبعد هذا الصلح نزل تحريم المسلمة على الكافر. قال تعالى:
{لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }
وقال تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[سورة الممتحنة: 10]
فنلاحظ أن الإسلام في بداية الأمر حرص على المحافظة على الأسرة وإيجاد فرصة للدعوة ،ثم أنزل الله حكمه الفاصل ،بين أهل الحق وأهل الباطل،في هذه السورة سورة الممتحنة ففارق المؤمنون زوجاتهم الكافرات ولم تبق مسلمة مع زوجها الكافر.

وجاء التحريم أيضاً في سورة البقرة في قوله تعالى:
{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [سورة البقرة: 221].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية من سورة البقرة   قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات":هذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}[سورة المائدة: 5].
أما قوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} فهذا عام لا تخصيص فيه.
وذكر سبحانه العلة والحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال (أولئك يدعون إلى النار) أي في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فمخالطتهم على خطر منهم: بل إنه الشقاء الأبدي .ا.ه
(تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي سورة البقرة آية 221)
فالنكاح رابطة قوية حرمها الله بين المسلمين و الكافرين وأما استثناء حل زواج المسلم من الكتابية فلعل الحكمة منه لأن الرجل له قوامة وولاية على المرأة فله تأثير عليها ،ودين الكتابية ديانة سماوية قريبة في الأصل من الإسلام فلعل في زواج المسلم من الكتابية دعوة لها للإسلام.



 

4- قطع التوارث معهم
انقطاع التوارث بين المسلم والكافر من مقتضيات الولاء والبراء دليل ذلك         قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) متفق عليه .
(أخرجه البخاري حديث رقم6764 وأخرجه مسلم في كتاب الفرائض حديث رقم 1614)
والسبب في ذلك: أن التوارث يتعلق بالولاية. ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض} .

و أما المرتد (من كفر بعد إسلامه): فلا يرث أحداً ،لا يرث أقاربه المسلمين ولا يرث أقاربه من الكفار الأصليين ولا يرث أقاربه المرتدين. لأنه لا يقر على ردته.

وأما إذا مات المرتد  فاختلف العلماء في ميراثه لمن يكون :
فذهب جماعة: إلى أنه لا يورث منه بل ماله فيء. وهذا قول مالك والشافعي.
وذهب جماعة: إلى أن ميراثه لأقاربه المسلمين وهو قول الحسن والشعبي وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد.
وذهب بعضهم: إلى أن ما اكتسبه بعد الردة فيء وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة .
(انظر المغني لابن قدامة  7/171    وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ص857)







5- عيادتهم في مرضهم:
 روى البخاري في كتاب الجنائز عن انس رضي الله عنه كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه .      فقال له: أسلم ،فنظر الى ابيه وهو عنده ,فقال له: أطع أبا القاسم.  فأسلم  فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار .
(أخرجه البخاري حديث رقم 1302)

وفي الباب قصة أبي طالب حين حضرته الوفاة فزاره النبي صلى الله عليه وسلم     (أخرجه البخاري حديث رقم 4772  وأخرجه مسلم حديث رقم 24)
فالزيارة للكافر المريض لدعوته للإسلام جائزة كما زار رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلام اليهودي وكما زار عمه أبا طالب .

6- حكم السلام عليهم
في فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية برئاسة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله حول أحكام السلام على الكفار ورد ما يلي:

الفتوى رقم :6782

س: ما حكم السلام على الكافر؟ يعني: إذا قال المسلم للكافر: (السلام عليكم) هل يجوز أم لا؟ وما حكم من دخل على مجموعة أناس مسلمون وكفار ماذا يقول في السلام، وما حكم رد السلام على الكافر؟ يعني: إذا قال الكافر: السلام عليكم، ماذا نرد عليه ونقول؟

ج: لا يجوز ابتداء الكافر بالسلام،
وإذا دخل على مجموعة فيهم أخلاط من المسلمين والمشركين فإنه يجوز السلام عليهم ناويا المسلمين منهم،
 وأما الرد على سلام أهل الكتاب فيكون بقول: (وعليكم) فقط.
وبالله التوفيق،   وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي
عضو: عبد الله بن غديان
عضو: عبد الله بن قعود. ا0هـ

 فلا يحل  للمسلم أن يبدأ الكافر بالسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم :    " لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام .. " .
(رواه مسلم  حديث رقم 2167 .)
وأما إذا سلم  الكافر علينا فلم يظهر لفظ السلام واضحا من كلامه أو قال:  " السام عليكم " - أي : الموت عليكم - ،  فإننا نجيبه بقولنا : وعليكم " .
لِما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل : عليك " .
رواه البخاري حديث رقم ( 5902 ) ومسلم حديث رقم 2461 .
. فإذا تحققنا من سلام الكفار علينا باللفظ الشرعي ، فقد اختلف العلماء في وجوب الرد عليهم ، والوجوب هو قول الجمهور ، وهو الصواب .
قال ابن القيم رحمه الله : واختلفوا في وجوب الرد عليهم فالجمهور على وجوبه وهو الصواب وقالت طائفة لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع وأَوْلى ، والصواب الأول والفرق أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيرا لهم وتحذيرا منهم بخلاف أهل الذمة . ا.هـ " زاد المعاد " 2 / 425 ، 426
 ويقول الرادّ من المسلمين الرد الشرعي باللفظ الشرعي ، مثل تحيته أو أحسن لعموم قوله تعالى : { وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها}
قال ابن القيم رحمه الله : فلو تحقق السامع أن الذمي قال له "سلام عليكم" لا شك فيه ، فهل له أن يقول وعليك السلام أو يقتصر على قوله وعليك ؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية ، وقواعد الشريعة : أن يقال له : "وعليك السلام" ؛ فإن هذا من باب العدل ، والله يأمر بالعدل والإحسان …. ولا ينافي هذا شيئاً مِن أحاديث الباب بوجه ما ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الرادّ "وعليكم" بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها ، فقال : "ألا ترَيْنني قلت وعليكم لمّا قالوا السام عليكم" ، ثم قال : "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم" ..
حديث عائشة رواه البخاري حديث رقم( 5901 ) ومسلم حديث رقم 2165
قال تعالى: { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} ، فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي : سلام عليكم ورحمة الله : فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه . ا.هـ " أحكام أهل الذمة لابن القيم ( 1 / 425 ،  426
وسئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: عن حكم السلام على غير المسلمين؟
فأجاب بقوله: البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم لعموم قوله تعالى: ]وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها[ وكان اليهود يسلمون على النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: "السام عليك يا محمد" والسام بمعنى الموت، يدعون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالموت. فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: "إن اليهود يقولون : السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم". فإذا سلم غير المسلم على المسلم وقال: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم". وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وعليكم" دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا: السلام عليكم فإن عليهم السلام فكما قالوا نقول لهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح:"السلام عليكم" جاز أن نقول: عليكم السلام.
ولا يجوز كذلك أن يبدؤوا بالتحية كأهلاً وسهلاً وما أشبهها لأن في ذلك إكراماً لهم وتعظيماً لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون، لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أن المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدؤوهم بالسلام.
إذاً فنقول في خلاصة الجواب: لا يجوز أن يبدأ غير المسلمين بالسلام لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالاً للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذل نفسه في هذا. أما إذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم مثل ما سلموا.
وكذلك أيضاً لا يجوز أن نبدأهم بالتحية مثل أهلاً وسهلاً ومرحباً وما أشبه ذلك لما في ذلك من تعظيمهم فهو كابتداء السلام عليهم.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 392)
وسئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله السؤال التالي:
ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" أليس في العمل بهذا تنفير عن الدخول في الإسلام؟.
فأجاب بقوله: يجب أن نعلم أن أسدَّ الدعاة في الدعوة إلى الله هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن أحسن المرشدين إلى الله هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وإذا علمنا ذلك فإن أي فهم نفهمه من كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، يكون مجانباً للحكمة يجب علينا أن نتهم هذا الفهم، وأن نعلم أن فهمنا لكلام النبي، صلى الله عليه وسلم، خطأ، لكن ليس معنى ذلك أن نقيس أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، بما ندركه من عقولنا، وأفهامنا، لأن عقولنا وأفهامنا قاصرة، لكن هناك قواعد عامة في الشريعة يرجع إليها في المسائل الخاصة الفردية.
فالنبي، عليه الصلاة والسلام، يقول: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" والمعنى: لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم حتى يكون لهم السعة ويكون الضيق عليكم بل استمروا في اتجاهكم وسيركم، واجعلوا الضيق إن كان هناك ضيق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هدى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليس إذا رأى الكافر ذهب يزحمه إلى الجدار حتى يرصه على الجدار ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يفعل هذا باليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار.
فالمعنى أنكم كما لا تبدؤونهم بالسلام لا تفسحوا لهم فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق، وليس في الحديث تنفير عن الإسلام بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل.(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 396)
7-  تهنئتهم في مناسباتهم وأعيادهم

تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم حرام بالاتفاق كتهنئتهم بأعيادهم ونحوها فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئ النصراني لسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتاٌ من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
(أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/205)

وسئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: عن حكم مخالطة المسلمين لغيرهم في أعيادهم؟
فأجاب قائلاً:مخالطة غيرالمسلمين في أعيادهم محرمة لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى:]وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان[. ولأن هذه الأعياد إن كانت لمناسبات دينية فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم على هذه الديانة و الرضا بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت فكيف وهي في الكفار؟‍ لذلك قال أهل العلم إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم، لأن ذلك إقرار ورضا بما هم عليه من الدين الباطل، ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان.
واختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحد من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم هل يجوز لك قبولها أو لا يجوز؟فمن العلماء من قال :لا يجوز أن تقبل هديتهم في أعيادهم، لأن ذلك عنوان الرضا بها، ومنهم من يقول :لا بأس به. وعلى كل حال إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راض بما هم عليه فإنه لا بأس بالقبول وإلا فعدم القبول أولى. وهنا يحسن أن نذكر ما قاله ابن القيم - رحمه الله - في كتاب أحكام أهل الذمة 1/205 "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب.. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" أ.هـ.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 391)
وسئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله : عن حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسميس؟ وكيف نرد عليهم إذا    هنؤونا به؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد؟ وإنما فعله إما مجاملة أو حياءً أو إحراجاً أو غير ذلك من الأسباب؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق،
 كما نقل ذلك ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "أحكام أهل الذمة"، حيث قال: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن تهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه". انتهى كلامه - رحمه الله -.
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضا به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك، كما قال الله تعالى: ]إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم[. وقال تعالى: ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً[. وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا.

وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك، لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى، لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة،  لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً، صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الخلق، وقال فيه: ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[

وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم
فيها.وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "من تشبه بقوم فهو منهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): "مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء". انتهى كلامه - رحمه الله -.
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة، أو تودداً، أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم.
والله المسؤول أن يعز المسلمين بدينهم، ويرزقهم الثبات عليه، وينصرهم على أعدائهم، إنه قوي عزيز.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 404)










8- حكم السفر للسياحة في بلاد الكفار:
سئل شيخنا محمد العثيمين رحمه الله عن حكم السفر إلى بلاد الكفار للسياحة؟
فأجاب قائلاً: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
(مجموع فتاوى ابن عثيمين فتوى رقم 388)








                             الخاتمة

إن المتأمل للدراسات والبحوث المعاصرة حول الولاء و البراء؛  يجد كثيراً منها يركز على مهاجمة أحزاب معينة أو جهات معينة.أو على النقيض يركز على الدفاع عن أحزاب معينة أو جهات  معينة .
بينما المنهج السليم- في نظري- لدراسة وبحث الولاء والبراء هو:           التوضيح العلمي لعقيدة الولاء و البراء عند أهل السنة والجماعة،        فإذا توضحت وتجلت عقيدتهم في الولاء و البراء  عرف من قام بالولاء و البراء تمام القيام، وعرف من قصر فيه و ما مقدار تقصيره.
والمرجع في الحكم على ذلك هو الكتاب والسنة مع التجرد عن الهوى            قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا  في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}وقال تعالى :{فلا تتبعوا  الهوى أن تعدلوا} وقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}
فإذا حصل الرجوع للكتاب والسنة مع التجرد عن الهوى عرف الحق وأهله،وعرف الباطل وأهله.

أسأل الله بأسمائه الحسنى و صفاته العليا أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا  اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.وأسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره  إلينا الكفر والفسوق والعصيان ،واجعلنا من الراشدين.
                            والحمد لله رب العالمين.


                     المحتويات

المبحث الأول :تعريف الولاء والبراء  لغة واصطلاحا                          4

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنه والجماعة في الولاء والبراء                    7

المبحث الثالث:مظاهر موالاة المؤمنين                                         12

المبحث الرابع:بيان موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع          15

المبحث الخامس:البراءة من المنافقين                                         17

المبحث السادس:النهي عن موالاة الكافرين وبيان مظاهرها                 20

المبحث السابع: ضوابط في الولاء والبراء                                    38

المبحث الثامن:أحكام التعامل مع الكفار                                       55

الخاتمة                                                                          67

المحتويات                                                                      68


                                                              والحمدلله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.